دراساتصحيفة البعث

مذبحة لا تُمحى مع تقادم الأيام

علي اليوسف

منذ أن ابتلي الفلسطينيون بنكبتهم وحتى الآن، ظل كيان العدو الصهيوني كياناً مغتصباً مغرقاً في نزعة العدوان، وممارسة جميع صنوف وأنواع الطغيان والوحشية والإجرام لكثرة ما حفل به تاريخه الأسود من سفك لدماء الفلسطينيين والعرب، ومما لا شك فيه أن مجزرة صبرا وشاتيلا كانت واحدة من أبرز هذه المذابح والمجازر التي لا حصر لها، والتي تمر ذكراها الـ /37/ هذه الأيام، إن أكثر ما يؤلم هذه الذاكرة هو أن الفلسطينيين وبعض العرب اعتادوا على إحياء ذكراها في أجواء بالغة من الحزن والأسى نتيجة حالة التردي والهوان، والتطبيع العلني لعدد من الدول العربية مع الكيان الصهيوني، وفقدان الإرادة والكرامة بفعل ضعف وخضوع عدد من الحكام العرب، واستسلامهم لمشيئة الإرادة الأمريكية- الصهيونية المشتركة.
عقود متتالية مرت على تاريخ حدوث المجزرة ولم يجرؤ المجتمع الدولي على ملاحقة الصهاينة المجرمين الذين خططوا لها، وسهّلوا تنفيذها، والذين كان من بينهم من واصل ارتكاب جرائم القتل والإبادة ضد أبناء الشعب الفلسطيني خلال انتفاضتيه: الأولى في عام 1987، والثانية في عام 2000، وخلال الاعتداءات العسكرية الصهيونية الإجرامية على قطاع غزة في الأعوام: 2007 و2008 و2010 و2014، وصولاً إلى اليوم، وفي مقدمهم الإرهابي آرييل شارون.
ولكن رغم كل المآسي التي يتكبدها الشعب الفلسطيني، لم ينطفىء هول المجزرة، ومازالت الجدران تحتفظ بخيالات القتلة وهم يتسللون إلى داخل البيوت، ومازالت الأصابع تشير إلى القاتل، ففي تلك الجريمة الوحشية تحالف أعداء الإنسانية وقيم الخير والحق والعدل من صهاينة غزاة، وخونة محليين، جلّهم من ميليشيا “القوات اللبنانية” التي كانت تشكّل آنذاك الذراع العسكري لحزب “الكتائب” اللبناني المعروف بنزعته اليمينية المتطرفة، لذلك ستبقى مجزرة صبرا وشاتيلا وصمة عار فوق جباه الصهاينة الذين خططوا لها وأشرفوا عليها، وفوق جباه حلفائهم الذين ارتكبوها بدم بارد، وستبقى وصمة عار في السجلات التاريخية للدول الغربية والعربية التي تآمرت، أو تواطأت، أو تماهت، أو غضت الطرف عن هذه الجريمة النكراء.
في صيف عام 2018 الماضي نشر الباحث الأمريكي في جامعة كولومبيا سيث أنزيسكا في كتاب له بعنوان: “منع وجود فلسطين: تاريخ سياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو” الملاحق السرية المرفقة بتقرير “لجنة كاهان”، تعود القصة إلى عام 2012 حينها وقع أنزيسكا على مجموعة وثائق سرية ترجّح تورط جهات أمريكية في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، كانت تلك الوثائق محفوظة في دائرة المحفوظات الإسرائيلية في القدس، وقد فُتحت أمام الباحثين- بموجب قانون الإفصاح عن الوثائق بعد مرور ثلاثين عاماً- بعدما كانت مصنّفة في خانة السرية التامة، وخلال البحث في ملفات وزارة الخارجية آنذاك، عثر الباحث على محضر اجتماع في 17 أيلول بين وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك آرييل شارون ومبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط موريس درابر، جرى على ضوء مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم نشره لاحقاً في “نيويورك تايمز”، كاشفاً ما جرى في الاجتماع، وفي الاجتماع، طمأن شارون درابر إلى أن “إسرائيل لن تورّط الولايات المتحدة في الجريمة”، قائلاً: “إذا كنت متخوفاً من أن تتورط معنا فلا مشكلة، يمكن لأمريكا بكل بساطة أن تنكر الأمر أو علمها به، ونحن بدورنا سننكر ذلك أيضاً”.
في كتابه، يكشف أنزيسكا بعد نشر تلك الوثائق عام 2012، كيف تواصل معه ويليام كوانت، الباحث الأمريكي المختص بشؤون الشرق الأوسط، والذي تولى الشؤون العربية والإسرائيلية في مجلس الأمن القومي أيام جيمي كارتر، سلّم كواندت الوثائق التي تشكّل الملحق السري لتحقيق كاهان لأنزيسكا كي يعمّق أبحاثه حول المجزرة، ولكن كيف وصلت الوثائق لكوانت بالدرجة الأولى؟ وبين عامي 1983 و 1984، تولى كوانت الدفاع عن مجلة “التايم” في الدعوى المرفوعة بحقها من قبل آرييل شارون الذي انزعج من اتهامها له بالمسؤولية المباشرة عن مجزرة صبرا وشاتيلا، وفي سياق تحضير الدفاع للقضية، وصل إلى شركة المحاماة Cravath, Swaine &” Moore” ملف سري تضمن تحقيق “كاهان” والملحق السري، وعمدت الشركة إلى ترجمة الأخير من العبرية إلى الانكليزية، وإلى مطابقة الترجمة بالاستعانة بعدد من الباحثين، وقد نشرت هذه المقتطفات باللغة الانكليزية للمرة الأولى من ملحق تقرير لجنة “كاهان” بشكلها الأصلي وكمصدر مفتوح كي يتاح للباحثين في لبنان وفلسطين وغيرهما أن يراجعوا هذه المصادر الأصلية بشكل مباشر، هذا ما كتبه أنزيسكا معلّقاً: “هذا الملحق هو مصدر تاريخي آخر يمكن أن يثير صدمة، مجموعة مخيفة من المذكرات التي ترسم صورة أكثر اكتمالاً لحماسة إسرائيل والكتائب لارتكاب العنف ضد الفلسطينيين كجزء من حرب أوسع لإعادة تشكيل الشرق الأوسط”.
سبعة وثلاثون عاماً لم تجعل الفلسطينيين ينسون تلك المؤامرة المحبوكة لإبادة الفلسطينيين في مجزرة لا ينساها التاريخ ولا الناجون منها، يحملون في جوفهم مناظر الدماء التي سكبت على قارعة الأزقة في مخيمات صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982، في السادس عشر من أيلول تحديداً، ليكون شهر أيلول أكثر الأشهر اكتظاظاً بذكريات الموت في تاريخ القضية الفلسطينية، نعم ستبقى مجزرة صبرا وشاتيلا وصمة عار لا تُمحى مع تقادم الأيام.