“غرباء تماماً” العدوانية الخبيثة وكشف الأسرار
“إننا جميعاً قابلون للكسر” الجملة التي قالها د. روكو –ماركو جياليني- صاحب المنزل الذي استضاف أصدقاءَه مع زوجاتهم وصديقهم الأعزب، ليشكلوا ثلاث ثنائيات والأعزب، الأصدقاء الذين ارتبطوا بصداقة حميمة طيلة سنوات في الفيلم الاجتماعي الإيطالي “غرباء تماماً”- إخراج باولو جينوفير- والتي كانت مفتاح النقاش بعد عرض الفيلم في النادي السينمائي بالتعاون بين مؤسسة أحفاد عشتار ووزارة الثقافة- المؤسسة العامة للسينما- في سينما كندي دمشق.
الفيلم الحائز على جوائز والمنتج عام 2016، حمل الكثير من الرسائل المجتمعية وأظهر دور الطبيب النفسي في المساعدة على قبول الذات والمساعدة على حل المشاكل، ومرر بذكاء الدعوة إلى التمسك بالآخر وعدم الانفصال لمواجهة انفصال أكبر بجملة”يتعلمون كيف ينفصلون.
سيناريو الفيلم شدّ المشاهدين بقوة إلى ما يدور على الطاولة المستديرة وتحليل أبعاد كل جملة رغم أن “اللوكيشن” مكان واحد، ويوحي الفيلم باستحضار نمط سينمائي قديم وتقليدي من حيث اللقطة الطويلة والامتداد المشهدي الدرامي دون تقطيع وإبهار وانتقالات مشهدية، فركز المخرج على أداء وملامح الأبطال الذين بدا الخوف على ملامحهم في لحظات حادة، وتغلغل بسبر أغوار الذات والمجتمع على الطاولة التي تجمع الأصدقاء على العشاء لقضاء وقت جميل ومشاهدة خسوف القمر الذي وظّفه المخرج برمزية إلى الوجه الخفي داخل كل إنسان.
صندوق الأسرار الأسود
الفيلم المغلق المفتوح في آن واحد فالزمن الفعلي هو السهرة الليلية فقط إلا أنها تفتح أبواب الزمن لسنوات خلت، والمكان منزل صغير وغرفة تحتوي على الطاولة المستديرة وأرائك متفرقة، وشرفة تجمع فيها الأصدقاء لالتقاط الصورة التذكارية بالجوال، الذي بُني عليه الفيلم وأطلق عليه”صندوق الأسرار الأسود” ليمرر المخرج بذكاء أن هذا الصندوق يكشف أسراراً من الممكن أن تدمر الآخر سواء أكان العائلة أم الأصدقاء وتنسحب لتطال الخطوط العريضة للعلاقات الاجتماعية، من خلال اللعبة التي اقترحتها زوجة د. روكو كارلوتا-الطبيبة النفسية ذات الشخصية العدائية التي أرادت بداخلها كشف أسرار الجميع وضمان أسرارها، والملفت هو الفصل تماماً بين عملها كمحللة ومعالجة نفسية وسلوكياتها العدائية مع عائلتها فهي دائمة الغضب والصراخ وتعارض ابنتهما الوحيدة إيفا بعلاقتها العاطفية مع صديقها، ودائمة التوتر مع زوجها لنكتشف لاحقاً سبب هذا التناقض، وتدور اللعبة حول فتح الهواتف الجوالة للجميع ووضعها على الطاولة أثناء العشاء واستقبال المكالمات والرسائل على مكبر الصوت والإجابة عنها، في البداية كانت الأمور مضحكة لتغوص بعد قليل بالعلاقات الأسرية والخاصة فتحولت السهرة إلى مواجهات ثنائية عدوانية تنم عن كبت الكثير من التراكمات التي انفجرت، فيتضح أن لي المحامي يقيم علاقة افتراضية مع صديقة ترسل له صورتها في العاشرة ليلاً، فيخاف ويطلب من صديقهم الأعزب بيبي – جوزيبي باتيستون- مبادلة الجوال معه ليتضح أنه مثلي وتصله رسالة من شيركو” اشتقت لقبلاتك” فتنفجر زوجته التي تعتقد أنها تعيش مع رجل مثلي، في الوقت الذي يتضح فيه أنها على علاقة افتراضية مع رجل تكتب إليه على الفيس بوك.
أما كوزيمو فيتضح أنه على علاقة مع مديرته التي تخبره بمكالمتها أنها حامل، لكن المفاجأة بالإشارة الذكية من المخرج بالاتصال الموجه إليه وسؤال البائع عن الأقراط التي اشتراها في الوقت الذي زوجته لا تضع الأقراط، فيفجر المخرج القنبلة ليعرف المشاهدون العلاقة السرية بين صاحبة المنزل وصديق زوجها فتنقلب عليها اللعبة، وبعد تفاصيل دقيقة يعترف الأعزب أنه هو المثلي ويرفض دعوة شريكه المثلي للتعرّف إليهم”علينا أن نحمي الأشخاص الذين نحبهم” ويضعنا المخرج على المحك فنعتقد أن الانفصال مصير الأزواج الثلاثة، إلا أن رسالة المخرج تكتمل بعودة القمر المضيء وعودة الأصدقاء إلى منازلهم بسرور وكأن شيئاً لم يكن والاتفاق على موعد لاحق، واستيعاب الزوج خيانة صديقه وزوجته بالإشارة إلى الأقراط الجديدة وطلبها الصفح بطريقة عاطفية غير مباشرة تأكيداً على تجاوز النزوات من أجل الحفاظ على استمرارية العلاقات على كل المستويات، وربما كان يرمي المخرج إلى أبعد من ذلك إلى استمرار العلاقات بين الدول.
الغرابة المقلقة
النقاش بين جمهور النادي ود. أيسر ميداني ود. رندة رزق المعالجة النفسية كان غنياً اجتماعياً، حيث انصب اهتمامهم على السيناريو الذي كُتب بالتعاون بين خمسة كتّاب، وتحدثت د. أيسر عن أهمية عدم تجاوز الحدود في كشف الأسرار، وتطرقت إلى التناقض الذي يعيشه الرجل في كل المجتمعات بالسماح لنفسه بأمور لا يقبلها من زوجته، وتوقفت عند جملة يتعلمون كيف ينفصلوا، لتنوّه إلى الانفصال بذكاء، الانفصال الذي لايضر بالآخر ولا يشهر به وعدم استغلال الأطفال للإيذاء بالطرف الآخر.
وشرحت د. رزق سيكولوجية الطبيبة النفسية العدائية بأبعادها الخفية، لتصل إلى ما أسمته بالغرابة المقلقة القائمة على التوجس والخوف والقلق، مبيّنة أهمية الاستمرارية لعدم الوقوع بمشاكل أكبر، ومخاطر الانفصال سواء بالحب أو الزواج، واستيعاب الحالات التي يعيشها المراهقون، وأجابت عن استفسارات المشاهدين التي طالت اللجوء إلى العلاقات الخاصة والافتراضية كنوع من الهروب أو الملجأ أحياناً.
ملده شويكاني