الزرقة المشتهاة
سلوى عباس
في أول سفرة من عام الحب كتب لها: أعرف أن وداعك محزن لكني أتيت، وأعرف أني لن أتعوده، لكني دائماً كنت أقف على رصيف المحطة أتابع حركتك وأرقب يدك تلوح لي من فوق الكرسي فيلوح ما تبقى لدي من روح.. كأنك، وعلى غفلة مني انسربت من بين جفني صورتك البهية، وكأنك حملت حقائبك وثنايا فستانك ونسيتني وحيداً في المحطة لا يؤانسني إلا دفء عميق بقي في يدي. الأمكنة موحشة والزمن بطيء، لا أجد فيه مؤنساً غير أن أعد الثواني فأخطئ في العد لأعود من جديد عسى أن يمر الوقت بالسرعة التي أود ويقرّب لحظة تعودين فيها.. هدير الحافلة يعلو في المكان ثم يخبو بعيداً.. يغيب الهدير، تغيب صورتك عن العين فتشتعل صورة القلب، ويبدأ اتقاده الشوق.
****
مكرهاً وافق على سفرها.. حسناً لكن لا تتأخري، حاولي أن تجعليه أقل من أسبوع، أو ليس أكثر من ثلاثة أيام، وكأنه حد مقبول وغير مؤذ أو مزعج، وكأن به ذلك الديمقراطي الذي يصور الواقع وما هو طبيعي، فيتكلم بتلك اللهجة التي تتصف بالعقلانية والمرونة واللباقة، وهو في الحقيقة كان يتجاهل وقع الأيام السبعة، أو حتى الثلاثة، ويتجاهل حمأة الشوق الذي سيستحكم به بعدها، وكيف سيأتي لعينيه النعاس.. ليس قليلا أبدا أنها سافرت وما رفع يده ليودعها في المحطة، ولا غمرته من عينيها نظرة فيها حنين العائد، ولا اطمأن قلبه على تقاسيم وجهها الجميل التي تنبئ عادة عما فيها، ولا هدأت روحه بابتسامة منها، هكذا وكأن كل شيء على ما يرام، لكن الأمر لم يكن كذلك، فقد حل به إحساس باليتم وخواء الوقت من كل شيء، اتسعت الدنيا فجأة ونبتت الوحشة في إضلاعه سريعاً وتشابك مرارتها عروقه، يأتي إلى عمله موهوما بأنها قريبة منه على مرمى دقتي قلب، أقرب من ثلاث حركات في قرص الهاتف، وكأنها تجلس على كتفه في موضع الملائكة تتكئ إلى أذنه فيسمع قلبها وشهيقها ودفء همسها اللذيذ.
****
أراك، لا يكفيني لأنك دائماً تغيبين وراء طاولة باردة.. لا أحس دفئك ولا يغمرني حضورك الشهي.. لا ألمس راحتيك إلا مصافحاً في لحظة وداع قصيرة.. لا أسمع صوتك الوثير ولا أغرق في لون عينيك… لا يكفيني أبداً أن ألقاك لتتأجج ناري إلى غدٍ ما، ولا أن أبث إليك روحي فيصادرها الهواء المحيط بنا ويبعثرها في دخان سيكارة أحرقها.. وتحرقني.. أرى نفسي كسجين أُخذ بعيداً عن حريته تجتاح أحلام انطلاقته كل أحجار زنزانته فيقوضها.. إنها ضراوة الاشتياق وطغيان المحبة يوقدان جنوني العارم بك.. أشعر أني أقفز فوق الساعات والثواني مسرعاً إليك غير آبه ببطئها المعهود وتماطلها عن مماشاتي، وعن عنادها القديم وتكاسلها المغيظ، لا شيء يوقفني ولا تعب يهدني، حين أضبط خطوي والتفاتاتي يحن القلب فيجري إليك.. دعيني أصليك وأكفر في محرابك عن كل ماضيّ وكل خطاياي القادمة.. دعيني أصلي بين يديك مذنباً بكل معاصي الحب، أتوب إليك فيك، أكفّر عن زمن لم أعرفك فيه، عن يوم مررت بخاطري مثل غمامة صيف لم أخطف رطوبتها، عن سنين كنت قربي ولم أهدم ستاراً حجبك عن روحي.. لقد فتحت لك أبواب سمائي ووجداني فلا تستأذني أحداً، لأنها سماك، هي لك بكل سحابها وغيثها، وكل أقمارها اللامعة وشموسها ونيازكها، فانثري هواجسك، وادخلي حالة الحب من بابها الجليل.