الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

اقتباس من دفتر اليوميات!؟

 

د. نهلة عيسى
ساحات مزركشة, وأشجار زينة, غزلان ورنة, أضواء ساطعة, وبابا نويل على عربته يبدو سيد الأوان والمكان, ومن حوله آلاف المتفرجين والمصورين, انه الميلاد, بكل ما تختزنه الذاكرة عن الميلاد, وعن الفرح, وعن الثلج الأبيض يغطي القمم, وألوان, وثياب جديدة, ونهاية عام كان سعيداً, بينما تبدو كل احتفالاتنا الآن, وكأنها مجرد اقتباس نريده أن يبدو “سعيداً” من دفتر يوميات بائسة, مهلهلة, تتابع بعيونها الكابية الساخرة وجوه المتصفحين المتلهفين على إعادة الزمان إلى ما كان, قائلة: تريدون العودة بالزمان, قل للزمان ارجع يا زمان!!.
أتجول في شوارع المدينة, ووجوه الناس الطامعة إلى أمل وأصواتهم الراجية يقيداني إلى حجارة الرصيف, في المسافة بين البكاء والكبرياء, ويطلقان في رأسي وجع أمة من الرجال والنساء, وتظاهرة من ذكريات قريبة, كان الميلاد فيها حفاوة بالحياة, وكانت الألف ليرة وليمة, تحلق بالمرء فوق غيمة من الرضا, وسحاب من قهقهات سخرية, أننا شعب يحب بطنه, ويربط الحب بالخبز والملح, ومناقل الشواء, والشراب, حيث الفرح زهيد الثمن, زهيد إلى حد أنه أقل من سعر الرصاصة التي اغتالت الفرح!.
أتجول في شوارع المدينة, بل يمنكم القول: أتجول في الاقتباس, وأتعرق خجلاً, وسكاكين الخيبة تمزقني قطعاً, وأنا على ظهر شعرة, لا أملك خياراً, وأشعر وكأن الهواء مات, والطريق مات, والبشر, والشجر, والرصيف, والسفر, والرحيل, وأنا مقيمة في قاعة انتظار, بلا أحد, سوى أصوات البشر تخاطب الرب, تسأله: غامر آدم بأكل التفاح, ربما من الضجر, وعوقب بالنزول إلى الأرض!؟ والغريب أن أول ما فعله هو زرع التفاح, فقضينا العمر نأكل من الشجر المحرم, أما آن الأوان أن تنتهي عقوبته وسلالته, أما آن أوان الفرج!؟
أتجول في الساحات, أستدعي مع الناس الفرح, وأثرثر عن النجوم, والمدى, والقمر, وعن البهجة ترسم حدود الوطن, وعن البشر العاديين, يحبون, يكرهون, يعاشرون الخيبة باسترخاء المصطاف في جزيرة جميلة, بلا “ثورة” في مذياع أو جريدة, تبحث تحت مزاعم افتداء الوطن المقهور والعقيدة, عن الكرسي, والسلطان, جنودها يحرسون من يمنحهم الراتب الشهري بالدولار, يصفون المدافع على الحدود ضد الحدود, وفوهاتها تدير الظهر للعدو, فنصبح نحن العدو, فنستدير نحن للوراء, فتطلق النيران على الوراء, أليس غريباً أن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الخبز والدواء, سرقت, وباتت لا تقتل الأعداء, بل تقتلنا نحن!؟.
أتجول في الساحات, أراقب الوجوه, والبسمات, وأسمع عرضاً, قصص من يظنون أنهم قالوا ما لم يقال, أو يفعلون مالم يفعل, متخذين من ملامح رضا في وجوه من يسمعونهم عروشاً حصينة, وأضحك في سري أنهم لو عرفوا حقيقة ما في قلوب المستمعين, سيصبحون حسيرين من كل عرش, حسيرين من كل قول, لأن لا عرش في مدننا إلا للعبث, فاض الحصار على البشر, وفاضت الشوارع بالوجل, لا يستقيم الوهم بالسعادة مع المسدس المدلى من حزام الخصر يحاسب على النَفَس!!
أتجول في الشوارع منقادة لما يجري فيها, أتلمس قصص من مروا في التاريخ بلا عجل, يحومون, يعبرون الأشياء إلى الصور المعلقة, يبحثون ربما عن وجوههم, عن ما كان في زمانهم, صبايا, ورعاة, وأغنام, وأشجار, ورسائل عشق مخبأة في أكمام القمصان, تنتقل من يد إلى يد في السلامات, التي تبدو عابرة, فيسكت التلفاز عن موجز الأنباء, آه ما أجمل الصمت حين يصبح الصوت والموت عدوان للحياة, وما أجمل التوهم حتى لو كان بديلاً مراً عن أمل, إذ لطالما تشكلت الأحلام من أوهام, ولطالما تحولت الأحلام إلى سنابل تنتظر حصاداً, إن لم يكن غداً, فبعد غد لا بد قادماً, تذكروا أن المسيح صلب يوماً ونصف يوم, ثم قام.