دراساتصحيفة البعث

مستقبل الحروب وتحديات التطور التكنولوجي

 

عناية ناصر
يبدو أن مستقبل الحرب كظاهرة، اليوم، غامض كما كان دائماً، وهنا يقارن بعض المحللين الوضع الحالي بالفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ولا يتعلق الأمر بحدة الصراع المعاصر فحسب ، بل، أيضاً، بتكنولوجيا الحرب ونقص الخبرة في استخدامها، خاصةً إن حجم المواجهة العسكرية بين القوى الكبرى ذات الإمكانات التقنية المتساوية أو المتماثلة لا يزال غير واضح.
صحيح أن الولايات المتحدة مازالت تحتفظ بالريادة العسكرية في العالم، لكن قيادتها تواجه تحدياً. فروسيا تعمل على تطوير أنظمة صاروخية متقدمة، كما تشكل صواريخ الصين المتوسطة وقصيرة المدى مصدر قلق لواشنطن. وتقوم الصين والهند ببناء قوات بحرية قد تشكل قريباً تحدياً للبحرية الأمريكية. كما إن أي محاولة لحل مشكلة كوريا الديمقراطية النووية بالقوة محفوفة بمخاطر غير مقبولة. ويكشف السباق التكنولوجي عن العديد من القوى الرائدة التي تتقدم بوتيرة متساوية تقريباً دون وجود فجوات عميقة بينها. وهذا ما كان عليه الحال منذ منتصف القرن العشرين عندما أثبت الاتحاد السوفييتي قدرته على سد الفجوة التكنولوجية في غضون فترة زمنية قصيرة، لكن بعض المحللين يشككون في ثبات التدمير المتبادل المؤكد في القرن العشرين، مما يفتح الباب للتكهنات حول احتمال حدوث فجوة تكنولوجية من شأنها أن تمكّن من شن هجوم الضربة الأولى.
من المهم الاطلاع على العقائد العسكرية للدول المتقدمة لمعرفة كيف تطورت رؤيتها لمستقبل الحرب المحتملة. فمنذ عام 2010 وصفت العقيدة العسكرية الروسية بأنها ثاني أهم تهديد، ومن الواضح أن المخططين العسكريين الروس يتصورون سيناريو يكون فيه الخصم أعمى تقنياً مما يخفض الصراع إلى مستوى التكنولوجيا في القرن العشرين باستخدام خرائط ورقية فقط وليس أجهزة كمبيوتر.
حتى الصقر جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس ترامب، أشار ذات مرة إلى “عالم الصواريخ الباليستية متعددة الأقطاب”، ما يعني وضع إمكانات الصين بالاعتبار. وهنا لا يمكن استبعاد أن الولايات المتحدة أصبحت مدمنة على مراجعة اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية الأمريكية الروسية، وحتى منطق الولايات المتحدة بإلغاء المعاهدات مع روسيا من أجل احتواء الصين يمكن أن يمتد ليشمل اتفاقيات أخرى غير معاهدة “الصواريخ النووية المتوسطة المدى” وعلى رأس القائمة تأتي معاهدة ستارت الجديدة لعام 2010.
من غير المرجح أن يشهد العالم محادثات رئيسية جديدة متعددة الأطراف حول الأسلحة النووية، ومن شأن أي محادثات من هذا النوع أن تكشف عن تفوق الولايات المتحدة في الأسلحة التقليدية والذي يود الكثيرون تقليصه، لكن هذا غير مقبول بالنسبة لواشنطن. لهذا السبب، سيستمر سباق التسلح التقليدي، أي طرف قادر على تحمل تكاليفه، بشكل مستمر. بالنسبة لروسيا هذا ليس وضعاً غير عادي، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة فإنها تعتبر موسكو مورداً بديلاً لعدد من التقنيات العسكرية ذات الأهمية الحاسمة لتحقيق توازن عسكري وهذا يجعلها لاعباً قوياً في مجال الأمن العالمي حتى لو لم تزد من إنفاقها العسكري. يمكن ملاحظة ذلك في إعادة توجه تركيا الاستراتيجي بعيداً عن الولايات المتحدة، إذ قررت أنقرة تعزيز أمنها بنظام الدفاع الجوي الروسي S-400 وهي تستعد لشراء طائرات مقاتلة متقدمة متعددة المهام.
هناك الكثير من المخاطر التي ينطوي عليها التطور التكنولوجي الذي يمكن أن يكون له تأثير حاسم على إمكانات النزاعات المسلحة في المستقبل. ولا أحد يعرف حقاً الإمكانيات المدمرة التي تكمن في الفضاء الالكتروني. يمكن أن تمتلك الأسلحة السيبرانية قدرة تدميرية أكثر من أنظمة الأجهزة الحديثة، ولكن يمكننا أن نظل متفائلين بحذر من أن الردع المتبادل سيظل مهماً في بيئة تكنولوجية جديدة. ومع ذلك، فإن دور الذكاء الاصطناعي في الشؤون العسكرية لم يكتمل بعد.
من الواضح أن القوى العسكرية الرائدة لا تؤمن باحتمال حدوث سيناريو يوم القيامة. في أوائل عام 2019، رفض الدبلوماسيون الروس والأمريكيون في جنيف بشكل مشترك الاقتراح الأوروبي للحد من استخدام الروبوتات القتالية والذكاء الاصطناعي في ساحة المعركة فهما لا تعتبران سيناريو يوم القيامة أمراً محتملاً في هذه المرحلة، و لا تعتقدان بأن الذكاء الاصطناعي يتطور بشكل كافٍ. أما من الناحية التاريخية، كانت ميزة الغرب الساحقة في التكنولوجيا العسكرية هي مصدر هيمنته على العالم، لكن المشكلة في أي تقنية هي أنه لا يمكن احتكارها إلى الأبد. في دوامة التطور التكنولوجي التالية، من المحتمل أن تتطور أنظمة أسلحة جديدة حسب إمكانات كل بلد مشارك.