الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الزمن.. مرآة!

 

حسن حميد
منذ آماد بعيدة، قال أهل المعرفة، وحين يحتدم الخلاف، المسألة متروكة للزمن، لقناعة قرّت في أذهان الجميع أن الزمن ناقد، وأن الزمن كشّاف، وأن الزمن غربال، وأن الزمن قدرة فذة في الحكم على الأشياء والظواهر والسلوكيات والأقوال والمبادئ والجمال.
وفي الثقافة ظهرت أمور كثيرة اصطفت عقولاً وأقلاماً لامتداحها بوصفها ظاهرة جديدة، وحالاً إبداعية تعجز معطيات العقل عن إدراك ما فيها من جماليات، ولكن الزمن الذي خرمها أبداها على حقيقتها الهشة الفارغة من أي مضمون وجمال، وقد بلع أصحاب المديح ألسنتهم مثلما بلع مريدوهم ألسنتهم أيضاً عجزاً عن بيان مؤيدات الجمال في تلك النصوص أو الظواهر و الكتب أو التيارات الأدبية والفنية التي عصفت بأحوال المعرفة ترداداً لتقلبات السياسة والتحولات الاقتصادية، وما فعلته التكنولوجيا، وما تركته من تأثيرات.
وللتمثيل أقول أين هي الجماليات التي عجز العقل عن اكتشافها في السريالية بعدما رحل المدافعون عنها والمنادون بها بوصفها فتحاً معرفياً، وأين هي الجماليات التي لم ترها العيون اليواقظ والقلوب الواعية /النابهة في الرواية الشيئية التي أسس تيارها الكاتب الفرنسي المعروف آلان روب غرييه، وأين هم مناصروها اليوم بعدما رحل غرييه، وكلود سيمون، وصموئيل بيكت كواحد من أعلامها؟! وأين هي أهمية كتابات الغموض والبهمة التي شاعت زمناً وتكاثرت إلى حدّ أنها بدت سمة جمالية للنص الأدبي، والمسوغ كان أن الوضوح في العمل الأدبي والفني ضعيف، وسُبة، وجهل، وقلة حيلة، وافتقادٌ للتكوين المعرفي الصلد؛ أين هي اليوم كتابات فرجينا وولف التي كُتب عن غموضها آلاف الصفحات، وقيل إنها زعيمة تيار الأدب الذي يحتاج إلى المنازلة والتبحر والتمعن وجلو دواخل النص.
وإذا ما تركنا النثر جانباً، ونظرنا إلى النص الشعري وما فعلته الأزمنة به، وكيف قددته حتى صار ناحلاً ضامراً تنفخ فيه الريح وتصفر، وكيف أن المسارات الشعرية التي سميت بمسارات الحداثة والجدة كلها لم تبدِ جمالية واحدة من الجماليات التي تكاثرت الأحاديث عنها، فلا القصيدة التي تخففت من رصانة الشعر غدت قصيدة بحق، ولا القصيدة المنقَّطة التي كثرت فيها أسطر النقاط، والقول إنها تشير إلى كلام غائب، على القارئ الحذق أن يكتبه حسب حالته النفسية، ولا قصيدة البياض أيضاً التي تركت مساحات بياض بين السطر والسطر أو بين المقطع والمقطع، وقيل إنها وقف نفسي، وتلبث لا بدّ منه لضرورات جمالية، أفلحت أو صمدت في الوقوف أو الحضور و المضايفة، ولا القصيدة الإلكترونية حالفها الحظ لتكون وجهاً من وجوه تطور القصيد ولو في الحدود المتواضعة!
ومثل هذا الأمر، أعني التيارات التي ولدت بلا جمال، بلا إبداع، بلا تعب حقيقي، سنراه في فنون ثلاثة هي السينما، والمسرح، والموسيقا، فقد أسقطت الذائقة البشرية من حسابها الكثير من أفلام السينما لأنها مرّت في الوقت أو أن الوقت مرّ بها فلم تترك أثراً، حتى لو كان ضباباً غائماً، لأنها ولدت ميتة في الأصل، وكذلك أسقطت الذائقة البشرية مئات المسرحيات والقطع الموسيقية من حسابها، على الرغم من ركام الحديث الطويل المادح لها، لأنها عجزت عن قول أي شيء حتى لو كان نافلاً، وعجزت عن الظهور ولو بثوب مستعار.
إذن، الزمن بما يمتلكه من حقيقة أزلية كان هو الناقد، وهو الحافظ لهيبة النص من جهة، وهو الغربال الذي يصطفي المراد منه من جهة أخرى، ولهذا تقول العامة /الطولة تكشف/، وليست (الطولة) هنا سوى الزمن، ولهذا أسأل هل الزمن هو مرآتنا التي علينا أن نواقفها بعيداً عن البهرجة والكلام المتكاثر زيفاً؟! بلى، الزمن هو المرآة!

Hasanhamid55@yahoo.com