مفاتيح الدخول والعبور لذاكرة الجمال في الحكمية
لن أفتش عن مداخل لحروفي الأبجدية لأن الجرأة والتمرد كانا دائما وأبداً إحدى أهم السمات الإبداعية وعجلة التطور للمجتمعات البشرية، فذاكرة الجمال هي الأغنية وهي هنا العنوان العريض لمعرض هو الأهم بالتأكيد وكل المعارض السابقة واللاحقة في هذا المكان كانت الدلالة على أن الحكمية قريبة العهد قد وفت بالوعد ولبت كل التطلعات حين قدمت لفنانين من مختلف الفئات العمرية والاتجاهات، لتكون صلة الوصل ما بين الفنان وجمهوره، ثم لاحقا ما بين الناقد والفنان وذلك عبر ندوات مرافقة ومقالات.
أما كلماتي هنا فستجد مبرراتها لتكون مفتاحاً للدخول إلى كم كبير من الإبداع والجمال الذي فرض نفسه دون أية اعتبارات أو محسوبيات وبعيداً عن العصبية والتكتلات، وهنا لا يسعني إلا أن أشكر مدير الصالة بالذات، ومقالتي هذه كباقة ورد أستعرض فيها بعض المشاركين والمشاركات في معرض ذاكرة الجمال الذي أقيم مؤخراً في صالة الحكمية في اللاذقية ومنها:
دعوة مفتوحة
حملت مشاركة علي مقوص عنوان “دعوة عشاء” مستمدة من العشاء الأخير، ولكنها هنا دعوة مفتوحة وفي قلب الطبيعة التي عمل عليها الفنان تحت ظلال شجرة حاضرة في معظم أعماله لا ينصح بالعد، إذ يعالج الفنان مقوص الطبيعة الساحلية والجبلية بحس ضبابي وغرافيكي عبر تكنيك خاص يصبغ لوحاته بروح أحادية تتشابه فيها المفردات حين يصير تأكيده وتركيزه على التأثيرات التي يحدثها الحف على سطح مهيأ لهذا الغرض، وحين تحقق تلك التأثيرات الكاشفة عن بياض الأساس غرضها في التعبير عن جرف صخري أو مقطع من منظور بعيد وغرضها في المواءمة مابين ألوانه بمختلف درجاتها من جهة، وأحباره وخطوطه القاتمة والمتواصلة والتي ترسم مفرداته من الجهة الأخرى.
وجه يشبهها
واستطاعت الفنانة ليلى نصير عبر تنظيم وتخطيط مسبق للعمل أن توظف الباستيل بكل إمكاناته لخلق عمل يشبهها، كما يشبه وجهاً ينتمي إلى الجذور وإلى الحضارات القديمة والفراعنة، ويبدو أن ذاكرتها لازالت متقدة تحن إلى أيام الدراسة وإلى ملامح على ضفاف النيل أو إلى جوار خوفو والأهرامات أو عند قاعدة الحارس القائم والأبدي أبي الهول.
بينما جاءت مشاركة نزار صابور تلخيصاً لظلال إنسانية فاهية موزعة بنظام شطرنجي ومستمدة من روح الأيقونة والكنيسة، إذ يخضع الفنان صابور لوحاته للزمن ولمراحل تأسيسية سابقة خاضعة للتصور الأولي عبر كل التقنيات التي يعتمدها، ابتداءً من عمليات التأسيس ونثر الأتربة والرماد (الرماد الذي أوصلته إليه رحلته الاصطفائية مع اللمسة واللون) والحف، إضافة إلى الطباعة في أجزاء من أعماله، ولأن اهتمامه كان منصباً على التكنيك جاءت مفرداته أكثر تجريداً عبر بقعة لونية ولمسة فرشاة مشحونة بمكنونات روحه السابحة في فضائه الإبداعي المتمرد على كل تقييد وتقليد، وفي الجانب الآخر أشير إلى سعي نزار في البعض القليل من أعماله التجريدية لتوظيف رسومه الواقعية المبسطة (وجه.. شكل إنساني) وتبرير وجودها في مكان ما ضمن سياق يثير الجدل حول إمكانية انتمائها لطبيعة أعماله الساعية لحالة فنية محضة، وأستطيع أن أفهم ذلك السعي كمحاولة لإرضاء الذات والتطلعات.
ويغني الفنان مجدي الحكمية مساحة العمل بدرجات من اللون الأرجواني مستفيدا من طبيعة اللون وقدرة فرشاته العريضة على الامتداد واللعب وفق إيقاع حسي وشفاف يمكنه من خلق تأثيرات موحية وكانت مشاركته بنفس تلك الروح.
تعبيرات تختزل الألم
ولطالما قدم الفنان بسام ناصر تحويرات تعبيرية تختزل الألم عبر ملامح أنثى نراها هي ذاتها تتكرر في معظم أعماله، في حين تأتي مشاركته الحالية عبر عمل مفتوح لواحد من اتجاهين متوقعين إما تكثيف عبر الخط واللون وعبر لمسات (انفلاتي) لا تسعى إلى ناظم عقلاني تبررها الشحنة الانفعالية للفنان وخبرته الحسية في ضبط الألوان، أو تلخيص أكبر للشكل وتحويراته وللعمل ومفرداته، ومابين الاتجاهين قد تخدم بعض المساحات المشكلة من روح مجموعه اللوني ليؤكد من خلالها على الأشكال والتكوينات.
أما مشاركتي أنا- الفينيق حسين صقور (التعبير عن فضيحة بفضيحة) فقد تضطر المتلقي أحياناً أن يكون الناقد والفنان، والحقيقة إن وقوفي هنا كان لسبب يتعلق بالجدل الذي أثاره عملي فيما يمكن أن تكون ردة فعل الجمهور اتجاهه كونه فاضحا وواضحا.. أستطيع أن أبرر ذلك الخوف للبعض كـ(خوف من مواجهة الذات) لذلك اسمحوا لي أن أمر على مشاركتي التي جاءت عبر عمل ينتمي للوحشية التعبيرية لأقول كم نحن بحاجة لتمرير انعكاسات تمثلنا، انعكاسات مصبوغة بالتمرد على واقعنا وقد كبلتنا القيم المتوارثة والعادات، وكم نحن بحاجة للنظر فيها فعلياً لا عبر الكلمات.. تلك الأنثى التي أقدمها هي ترجمة لتلك الانعكاسات وهي ترجمة لواقعنا المفضوح والمستور وفي تاريخ الفن كان التمرد دوماً (سواء في الفكرة أو التكنيك) هو مفتاح للعبور، فالأنثى التي كانت رمزاً لاستمرار الحياة عبر الزمن هي الشاهد اليوم على احتراق وطن وإنها في الواقع ل كذلك وقد قصدتها عبر توليفة سلسة مابين الواقعية والتعبيرية الوحشية والتجريد مابين خطاب مبطن وآخر مباشر (بالمشرمحي) وكان غرضي من هذا أن تصل الفكرة للجميع وأن يكون للفن أثر ظاهر لا يضيع.
حسين صقور