أخبارصحيفة البعث

المجـــــرم الأســــــاس

د. علي دياب

مع بداية العام الجديد وفي الثاني من الشهر الأول لهذا العام تمّ ارتكاب جريمة بشعة بحق قائد فذ من قيادات المقاومة الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس وصديقه “أبو مهدي المهندس” نائب قائد الحشد الشعبي العراقي على أرض العراق الشقيق، إضافة إلى عدد من المقاومين الذين كانوا برفقتهم، وتمّ الإعلان مباشرة عن أن موكب القادة استهدف من قبل طائرتين أمريكيتين مسيّرتين، وبعد يوم أو يومين يغرّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ويعلّق في أنه هو الذي أمر شخصياً باغتيال القائد سليماني، وذلك بسبب ما قام به ضد الجنود الأمريكان – كما يدّعي – وهو يعرف تماماً أن سليماني ليس إرهابياً، وقد قاوم الإرهاب وبمعرفة إدارته، وحقق انتصاراً يسجّل له! فإذا ما أمعنا النظر فيما سبق، وبالتوقّف عند ما يحصل في ساحة الميدان في منطقتنا، إن كان في العراق أو سورية أو لبنان، ومن هي الجهة المتضررة من نشاط المقاومين، ولا سيما منهم الفريق سليماني، والمهام التي كان ينفذها، والأدوار الكبيرة التي كانت مناطة به، لتبيّن لنا أن الجهة الضالعة في رصد حركة القائد سليماني، ووضعه في دائرة هدفها، هي الكيان الصهيوني، لما يستشعره من خطر عليه من قبل هذه الشخصية المهمة، ولكن الخشية من ردة الفعل التي ستحصل نتيجة اغتياله، دفع الإدارة الأمريكية وبالتنسيق مع نتنياهو، لأن تتصدّى وتعلن مسؤوليتها عن هذه الجريمة، ومن ثم ترامب شخصياً في أنه الذي أعطى الأمر!! وهذا يؤكد العلاقة غير الطبيعية بين الإدارات الأمريكية تاريخياً والتي بلغت ذروتها في عهد الإدارة الحالية مع الكيان الصهيوني، إذ آثر ترامب إعلان مسؤوليته، وذلك من أجل تشكيل خط الدفاع الأول في تلقي الضربات المؤلمة، نتيجة هذه الجريمة البشعة، وكل ذلك كرمى عيون الكيان الصهيوني، الذي تعد الإدارة الأمريكية أمنه من أمنها.

وللأسف وفي اليوم الأول والثاني توجهت الأنظار باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وكأن الكيان الصهيوني حمل وديع، لا علاقة له بمثل هذه الجرائم، بينما سجله الجديد القديم حافل بمثل هذه الجرائم، وأبطال المقاومة الذين قضوا على يدي عصابات العدو واختراقات الموساد الإسرائيلي كثيرة، وآخرها عماد مغنية وابنه، وسمير القنطار وغيرهم.. صحيح أن التواجد الأمريكي من خلال قواعده المتعددة في العراق وفي بقية الدول العربية ولاسيما الخليجية منها، لا يمنعه من القيام بهذه الجرائم، إلا أن المخطّط والمدبّر والمنفّذ أيضاً هو الموساد الإسرائيلي، وفي حالة الجنرال سليماني، أراد أن يختبئ ويتلطى خلف الأمريكي، ظناً منه أن الولايات المتحدة وما تشكّله كقوة عظمى أحادية الجانب، سيحسب ألف حساب إذا أريد الانتقام لهؤلاء الشهداء، بينما إذا تعلّق الأمر بالكيان الصهيوني فمن المحتمل أن ترد المقاومة، إلا أن حسابات الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية، هذه المرة، لم تكن صائبة، بل وعلى العكس فعادت عليهم بالويل والثبور، وفتحت عليهم النيران من كل حدب وصوب، فإضافة إلى الثأر للشهداء، لم يترك محور المقاومة القوات الأمريكية في العراق، وكما يقال في العامية “أول الرقص حنجلة”، فجاء قرار مجلس النواب العراقي واضحاً لا لبس فيه يطالب بخروج القوات الأمريكية، وبعضهم طالب أن تخرج خروجاً مذلاً، وعمل على توحيد فصائل المقاومة، وكذلك الكثير من الكتل النيابية التي كان بينها بعض الخلافات، والسيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، يعلن أن الجنود الأمريكيين سيعودون إلى بلادهم محمّلين في النعوش، وهذه الجريمة زادت في عضد المقاومة، وجعلتها أكثر قوة ومنعة وتصميماً على التصدي لقوات الاحتلال الأمريكي ودحرها، وبالتالي إعادتها ذليلة من حيث أتت، وهذا ما جعل ترامب لأن يخرج عن طوره، ويهدد بضرب المواقع الثقافية الإيرانية، وهو رئيس القوة العظمى، فلم يجد أحداً من مستشاريه ليذكّره باتفاقية لاهاي لسنة 1954 التي تحرّم التعرض للأملاك الثقافية، لأنها تشكّل جزءاً من التراث الإنساني للمجتمع البشري، كما لم ينبهه أحد إلى أن الأمم المتحدة أصدرت قراراً للعام 2017 أدرجت فيه تدمير المواقع الثقافية تحت بند جرائم الحرب.

يمكننا القول: إن ارتكاب هذه الجريمة هو توريط إسرائيلي بامتياز، على أن تكون الإدارة الأمريكية في الواجهة، وفي ظن قادة الاحتلال الصهاينة أنهم يخدعون، بتذاكيهم هذا، محور المقاومة، ويبعدون عنهم غضبه، ولكن القاصي والداني يدرك ما تشكّله المقاومة وأبطالها من رعب لقادة الكيان الصهيوني، وأن استهداف شخصية فذة مثل سليماني انعكست عليهم وعلى مخططاتهم سلباً، وأن رهاناتهم على الحرب الطائفية، أو القومية، في المنطقة، ستبوء كلها بالفشل، ويعيدون التذكير بالحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمانية أعوام، فها هم اليوم العراقيون والإيرانيون، وبقية محور المقاومة في القطر العربي السوري واللبناني والفلسطيني، يتوحّدون في مواجهة الحلف الأمريكي والصهيوني، ويتم نسيان تلك الحرب وما أفرزته، مثلما نسي الفرنسيون والألمان ضحايا الحرب العالمية الثانية فيما بينهم، ومن خلال نظرة شارل ديغول إلى أن مفهوم الدولة يعني النظر إلى المصالح لا إلى الحقد والثأر الذي يعدّ من ثقافة القبائل، وبالتالي فإن ما يتخبّط به الأمريكي والصهيوني سينعكس سلباً عليهم، وينعكس إيجاباً على محور المقاومة، ويعمل على توحيد أكثر مما هو موحّد، ليكون مؤهلاً لإخراج الأمريكي أولاً، ومن ثمّ التفرغ للكيان الصهيوني، وقضّ مضجعه، وإنهاكه من خلال توجيه الضربات الموجعة، وذلك إلى أن يحقق هذا المحور أهدافه القريبة والبعيدة، وتحقيق النصر الناجز على العدو، فالرحمة والشكر للشهداء الذين قدّموا لقضيتهم في استشهادهم، كما كانوا يقدّمون في حياتهم.