السياسات العدائية للولايات المتحدة والرؤى القاصرة
اتسمت سياسة الولايات المتحدة إزاء بعض من دول الشرق الأوسط بالعدائية، وجل الدول المعتدى عليها من الدول العربية. وهي سياسة ما لبثت الإدارات الأمريكية تتوارثها منذ أمد بعيد ، مع شيء من محاولات العقلنة إن جاز التعبير، إلا أن هذه السياسات زادت خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وبلغت أوجها في المرحلة الراهنة، إذ لم يقتصر الأمر حالياً على المنهج العدائي، بل باتت بعض من هذه التصرفات تلقي بظلال قاتمة على المدنية والحضارة وتنذر بحروب قد لا تكون تقليدية، وقد لا يعلم أحد كيف ستكون مجرياتها وإلام تنتهي، حتى باتت هذه السياسات تشكل خطراً ليس على منظومة السلم والأمن الدوليين فحسب، بل حتى على مصالح الولايات المتحدة ذاتها، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط.
والأدلة على ما سبق من قول قد لا تدركها الإحصائيات لكثرتها، ما زاد في كراهية شعوب المنطقة للولايات المتحدة، وسياساتها القاصرة، وغير المدروسة، وما يزيد الأمر خطورة أن الرأي العام الذي واكب جل تلك المجريات لا يميز في الغالبية منه بين الإدارة الأمريكية كإدارة حاكمة ، والشعب الأمريكي الذي ربما كان مغيباً عن كثير من الأحداث، والاتهام الدائم أن الشعب الأمريكي هو من يأتي بمثل هذه القيادات المتشددة والمتطرفة.
ومن صور الممارسات العدائية على نحو ما ذكرنا أن الولايات المتحدة كانت ولا تزال من أكثر الدول الداعمة للإرهاب الإسرائيلي بالسلاح والمال الأمريكي، وبدلاً من أن تنفق أموال دافعي الضرائب من الأمريكيين على البناء ومحاربة البطالة وتعزيز السلام، نجد أنها تصب لدى (الكيان الإسرائيلي) كي يزداد غطرسة وإجراماً. هذا على الصعيد العسكري، أما على الصعيد السياسي فالكل يعلم يقيناً أن الولايات المتحدة لم تسمح ولو باتخاذ قرار واحد يدين (الكيان الاسرائيلي) إزاء ما يقترف من جرائم غير مسبوقة في التاريخ، بسبب “الفيتو” الأمريكي الذي كان حاضراً على الدوام لينتصر للظالم على المظلوم، وللباطل على الحق.
ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، وإنما كانت السبب المباشر في اندلاع ثلاث حروب في منطقة الخليج العربي خلفت آلاف القتلى والجرحى ومشوهي الحرب، ودمرت اقتصاديات دول عدة، وخلقت الفوضى في دول أخرى، وأوجدت حالة من التنافر بين مختلف القوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة عبر توترات سياسية لا تنتهي.
ولكن مع ذلك، رغم كل تلك الممارسات العدائية الخاطئة ظلت الولايات المتحدة تبحث عن ذريعة قانونية حتى وإن كانت واهية كي تبرر تصرفاتها، وكي لا تظهر في مظهر من يخرق القانون الدولي بشكل صارخ، وبقي الأمر كذلك حتى بدأت الأحداث في منطقة الشرق الأوسط كي تتدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر أو غير مباشر فتسوغ دعم القوى الانفصالية، والعصابات الإرهابية التي هي في جلها من صنيعة تنظيم “القاعدة” الإرهابي وقد حدث ذلك في أربع دول على الأقل هي سورية والعراق وليبيا واليمن، كل ذلك تم بالمخالفة لأحكام القانون الدولي الذي لم يعد يهم الولايات المتحدة تبرير تصرفاتها وفقاً لأحكامه.
هذا الذي نقول يبدو من الأمور التي لا تثير الدهشة أو الاستغراب في منطقتنا العربية، ومرد ذلك سبب بسيط هو أن شعوب هذه المنطقة تدرك تماماً تلك الممارسات بحكم معايشته لها، وبحكم أنها ضحيتها الأساسية، لكن الأمر قد يبدو مستغرباً خارج النطاق الإقليمي لمنطقتنا، إذ قد يتساءل الكثيرون هل يمكن بالفعل أن تدعم الولايات المتحدة التنظيمات الإرهابية، وبخاصة إذا كانت هذه التنظيمات هي صنيعة تنظيم “القاعدة” الإرهابي الذي يفترض أن الولايات المتحدة كانت ممن عانى منه، فلا تزال أحداث الحادي عشر من أيلول وما خلفته من ضحايا ماثلة في الأذهان؟
ولكي لا يبقى كلامنا في إطاره النظري فإننا سنسوق بعض الأمثلة الواقعية المستمدة من مجريات الأحداث السورية منذ عام 2011 وحتى تاريخه، فقد قدمت الولايات المتحدة دعماً مباشراً إلى العصابات الإرهابية المسلحة شمل المساعدات المادية، والدعم اللوجستي، وكل ما يلزم لاستمرار التنظيمات الإرهابية في مواصلة نشاطاتها، بما في ذلك التدخل العسكري. ولا يغربن عن البال أنه وحين كان أبناء محافظة “دير الزور”يعانون من حصار تنظيم “داعش” الإرهابي، تقدم الجيش العربي السوري لفك الحصار، وقد استعاد “جبل الثردة” من براثن الإرهاب، فإن الطيران الأمريكي قام بقصف الجيش العربي السوري، ما مكن التنظيم الإرهابي من استعادة مواقعه والاستمرار في محاصرة المدينة، وكان هذا السيناريو يتكرر دائماً في مواقع مختلفة، وعندما قامت الولايات المتحدة بتدمير كامل الجسور على نهر الفرات، وتدمير البنى التحتية كمحطات المياه والكهرباء… كانت المروحيات الأمريكية تقوم بإلقاء منشورات كي يبتعد عناصر التنظيم الإرهابي عن المواقع المستهدفة، وعند تدمير محافظة “الرقة” بشكل كامل أتاحت الفرصة لعناصر التنظيم الإرهابي للخروج من المدينة قبل تدميرها، ولما تقدم الجيش العربي السوري وحرر المدن والقرى من تنظيم “داعش” الإرهابي سارعت الولايات المتحدة إلى نقل قادة التنظيم وعوائلهم إلى مناطق آمنة… وغير ذلك الكثير من التصرفات المشابهة.
اليوم تشهد منطقة الشرق الأوسط استمراراً لتلك السياسيات العدائية القاصرة، ما يهدد المنطقة، بل ربما العالم، وبما يقوض دعائم السلم والأمن على الصعيدين الدولي والإقليمي، وذلك عندما أقدمت الولايات المتحدة من خلال قواتها المتمركزة في العراق على اغتيال اللواء “قاسم سليماني” قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني، و”أبو مهدي المهندس” نائب قوات الحشد الشعبي في العراق، مع مجموعة ممن كان يرافقهما، الأمر الذي بدأت تداعياته بشكل مباشر بما ينذر بعواقب وخيمة.
وإثر ذلك طلبت الولايات المتحدة من رعاياها مغادرة العراق فوراً، كما طالب العراق مواطنيه بالابتعاد عن أي موقع للقوات الأمريكية مسافة لا تقل عن ألف متر، واستدعت الخارجية العراقية السفير الأمريكي مطالبة بتقييد حركة القوات الأمريكية في العراق، والعمل على سحبها، وهو ما دعا إليه ممثل العراق لدى هيئة الأمم المتحدة، ولأجل هذا الهدف اجتمع مجلس النواب العراقي مطالباً القوات الأمريكية بالانسحاب، هذا فضلاً عما يتم التحضير له في الولايات المتحدة ذاتها من العمل على استصدار قانون يحد من الصلاحيات العسكرية التي يملكها الرئيس “ترامب” في مواجهة إيران، ولا نعتقد أن الأمر سيقتصر على المطالبة بسحب القوات الأمريكية من العراق، بل يمكن القول: إن حتمية هذا الانسحاب من المنطقة بأكملها أصبحت أمراً واقعاً ولا يمكن الالتفاف عليه بأي ذريعة كانت، وقد بدأت بالفعل بعض الدول ممن انضوت تحت لواء التحالف الأمريكي بسحب قواتها من العراق.
ولعل من المفيد الوقوف قليلاً عند موقف مجلس النواب العراقي الرامي إلى سحب القوات الأمريكية من العرق، إذ قد يستاءل البعض فيما إذا كان مجلس النواب العراقي يملك هذه الصلاحية أصلاً؟.
بداية من المتفق عليه في فقه القانون الدولي العام أن المعاهدات والاتفاقيات الدولية من طبيعة عقدية، وهي تنشئ حقوقاً والتزامات متبادلة على النحو الذي يجري تفصيله في بنود المعاهدة أو الاتفاقية، ومن حق أي من الأطراف الانسحاب من المعاهدة أو الاتفاقية إذا ما استجدت ظروف تستدعي ذلك الانسحاب، وفقاً للأحكام الواردة في المعاهدة أو الاتفاقية، وقد يحدد دستور الدولة، أو قانونها، آلية الانسحاب، وفي هذه الحالة يجب أن تكون الآلية المتبعة منسجمة وأحكام القانون الدولي. وإذا خلا دستور الدولة وكذلك قوانينها من ذلك وجب العودة إلى اتفاقية “فيينا” لقانون المعاهدات لعام 1969.
نشير إلى أن الدستور العراقي لعام 2005 قد تبين آلية إبرام المعاهدات، والمصادقة عليها، لكنه لم يبين كيفية الانسحاب منها (المادة 110)، كما بين سلطة مجلس النواب في المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية.. والتوقيع عليها وإبرامها (المادة 61/4)، ما يعني أن الدستور العراقي جاء خالياً من ذكر الجهة التي تملك صلاحية تقرير الانسحاب من المعاهدات والاتفاقيات الدولية.
ولكن هناك اتفاقية أمنية جرى توقيعها والمصادقة عليها بين العراق والولايات المتحدة عام 2009، وبالتالي لا بد من البحث في نصوص هذه الاتفاقية لبيان كيفية الانسحاب منها، وهنا نجد أن المادة (30) من الاتفاقية قد نصت على أن ينتهي العمل بها بعد مرور سنة واحدة من تاريخ استلام أحد الطرفين من الطرف الآخر إخطاراً خطياً بذلك.
وعليه فإن مجلس النواب العراقي هو الجهة المختصة بإبرام المعاهدات والمصادقة عليها، وقراره المتضمن دعوة القوات الأمريكية إلى الانسحاب قرار قانوني، على أن يصار إلى مخاطبة وزارة الخارجية الأمريكية به بشكل خطي من قبل وزارة الخارجية العراقية.
تلك هي واحدة من تداعيات الأزمة التي أشعلت فتيلها الولايات المتحدة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبعه استهداف قاعدة “عين الأسد” في العراق بسلسلة من الصواريخ الإيرانية، ولا تزال لغة التهديد والحرب هي الغالبة بعد إعلان إيران تحديدها (104) أهداف للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وهي أزمة يبدو أنها لن تنتهي في الوقت القريب، وسيكون لها تداعياتها الآنية والمستقبلية، ولا يمكن التكهن بما ستؤول إليه الأمور، فالحريق يبدأ بشرارة، وقد نجد من يملك إشعال فتيل الحرب، لكن ذلك لا يعني مطلقاً أن سيكون قادراً على إنهائها كما يشاء، وفي الوقت الذي يشاء.
د. نجم الأحمد
أستاذ القانون العام – جامعة دمشق