ثقافةصحيفة البعث

ثلاثة رفاق.. رواية ريمارك ولعنة الحرب

وماذا بعد؟ سؤال دائماً يتردد عندما تضع الحرب أوزارها وتلقي بأحمالها وتترك الناس يتخبطون هنا وهناك وقد سلبوا الكثير من معالم إنسانيتهم التي باتت مشوهة، ثلاثة رفاق يلتقون بعد الحرب يحاولون بدء حياة جديدة مليئة بالأحلام والأمنيات لكنهم يصدمون بقسوة الواقع ومرارته، ويدركون سريعاً ملامح العالم الذي كانوا يعيشونه، والذي أملوا به ولم يكن سوى سراباً وسرعان ما اتضح زيفه وكذبه، وعليهم من جديد خوض صراعات الحياة بصورتها الحالية المتجددة ومحاولة التأقلم مع معطياتها الجديدة.

إريك ماريا ريمارك يصف في روايته “ثلاثة رفاق” أصدقاء حاولوا التغلب على الظروف المحيطة بهم المتمثلة بالفقر المدقع الناتج عن الأزمة الاقتصادية وعدم توفر فرص العمل وارتفاع وتيرة العنف الذاتي المتمثل بالانتحار والخيانة والبحث عن الخلاص من خلال الخمر الملازم الروحي لأولئك المهمشين.

للحرب فلسفة خاصة لا يستطيع استيعابها ربما إلا من اصطلى بنارها وعاش ويلاتها، فهي ليست حدثاً عابراً يمر من دون أن يترك أثراً أو يحدث خدشاً، بل هي أشبه بالحيوان المفترس الذي إن انقض على فريسته لن يترك منها إلا الأشلاء، فالمرء لا يعود كما كان لأن الأمر ليس اختيارياً، بل محكوم بقواعد الحرب وتبعاتها تأخذ منه الكثير شاء ذلك أم أبى ولا تبقي له إلا النزر اليسير ومهمته الأساسية اعتياد ما أبقته له ومحاولة التعايش معه.

تحكي رواية “ثلاثة رفاق” كانوا جنوداً زمن الحرب العالمية الأولى ثم اجتمعوا بعد الحرب، كوستر بشخصيته الهادئة والواثقة فكل اهتمامه في هذه الحياة ينحصر في سيارته وورشته وأصدقائه، لينتسبرومانسيته وتقديسه للحظة التي يعيش من أجلها وضحكته الصادقة التي تعني الحياة وحماسه للسياسة، أما روبي راوي هذه الحكاية فكان عدمياً لا يرى إلا عبثية الحياة فكل الأمور لها طريق واحد لا تعطي معنى للوجود حتى يصطدم بـ”بات” وبالحب الذي يغير كل معاني الحياة بالنسبة إليه ويعطي للوجود سعادة لا توصف، لكن القدر يعيد روبي إلى نقطة الصفر دائماً فالمرض والموت يغيران الحياة ويلغيان أي سعادة، قصة الحب بين روبي وبات، ليست أقل من أي قصة حب أخرى، قصة حب عن فتاة من طبقة راقية وشاب من طبقة مسحوقة، يتعرض الاثنان للاختلافات الجوهرية بينهما، يبحث كل منهما في الآخر عن نفسه، ولحسن الحظ يجد كل منهما أنه قصة رئيسية في حياة الآخر، فروبي الفيلسوف المتغير بآرائه الثابتة عن الحياة، يقع في حب الآنسة بات التي هجرت حياتها الثرية السابقة، ولأن الأوضاع صعبة ولطالما كانت كذلك فيحاول كل منهما أن يحتفظ بالآخر.

“ثلاثة رفاق”، رواية عن الكفاح والصداقة والحب، لا تشبه الكثير من الروايات التي تقاوم الحياة، إنها أفكار فلسفية ممزوجة بالسخرية من كل شيء، حيث تصبح العائلة فكرة، الصداقة إحدى وسائل المساعدة على الحياة، الارتباط حاجة مؤكدة، وأما الوحدة فهي السراب الذي لا يود أحد أن يصل إليه.

أثناء قراءة الرواية وتتبع مصائر شخصياتها يحاول سؤال البحث عن إجابة له هل الحرب هي الكاشف الحقيقي لذات الإنسان وبؤرته الأساسية؟ هل هي وحدها من تظهر زيف الإنسانية التي يدعيها البعض؟ فالتغيير الذي يطال الأفراد بعد الحرب لا يكون فجائياً بل إن رواسبه موجودة أصلاً في التكوين الذاتي لهم إلا أنهم كانوا يتجاوزونه ولا يلتفتون إليه مادام لا يؤثر على مسار حياتهم، هل الفاقة والعوز اللذان تخلفهما التناحرات والصراعات وحدهما المسؤولان عن خيانة البعض وبالبحث عن الملاذ الآمن بطرق لا يقبلها المجتمع في أغلب الأحيان؟ هل تبعات الحرب من تجعل الإنسان رافضاً لحياته الحالية فيقدم على إنهائها طوعاً ليظهر بصورة الضحية التي أدت بها الظروف إلى الانتحار، هل علينا أن نحمّل الحرب أوزارنا وخطايانا الخفية التي ما كانت ستظهر للعلن لولا محاصرتها؟

“ثلاثة رفاق” لا تتحدث عن الصداقة فحسب بل تتعداها إلى عالم الإنسان بما فيه من معاني الحب والتضحية والتفاني وخلق نقاط تصالحٍ مع الحياة كي يتسنى له الاستمرار فيها، هي سطور تصف علاقة الإنسان البسيط بالسياسة التي تعصف به وتتحكم بمصيره وتجعل منه ميدانها الرئيسي، ترصد التغيرات التي تطاله بعد الحرب ومدى تأثره بها وكيفية تعامله معها باعتبارها أعادت خلقه بمنظور جديد بعيداً عن المحاباة، فهو لا يمتلك الكثير من الفرص بل تكاد حظوظه تتلاشى تدريجياً، وما عليه إلا اغتنام تلك التي تمكنه من الاستمرار.

الحياة انعكاس نظرتنا لها والحرب هي التجربة المريرة والأسى الذي لا يُحتمل والاستمرارية بعدها هي الولادة الحقيقية المختارة، وفي رحلة قراءة الرواية والعيش بين جنبات سطورها سيتغلغل المرء في الأعماق وسيكون قريباً من شخصياتها ليتمكن من امتلاك مفاتيحها، وإن لم يكن أحد الرفاق أثناء قراءتها فهو لم يقرأها.

عُلا أحمد