وما شُبّه لي…
د. نضـال الصـالح
من القلعة، إلى الجامع الكبير، إلى الأسواق المسقوفة، إلى المآذن والنواقيس، إلى البيوت التي يسند بعضها بعضاً، إلى الحمّامات والخانات التي لما تزل، أهزّ جذوعَ الحجارة القديمة، فتساقطُ علي عبقاً جنياً من باذخ التاريخ، ومن القدود، ورقص السماح، وما توضّأ بالحياة مذ كانت الحياة.
أتلمس الحجارة بأصابع مسكونة بالحنين إلى زمن مضى، وناس مضوا، فتبزغُ بين الأصابع عناقيد من الحكايات عن إنسان حلب الأوّل في المغاور التي تتصل بسراديب إلى القلعة. يحكي لي أهلها القادمون من السيرة الهلالية. يحكي لي علّامة المدينة، الأسدي، في موسوعته المقارنة، أن أهل المغاير، ذات يوم، حملوا الجفوتة، ومضوا إلى القنصلية الإنكليزية في حلب، وقال رجل منهم للقنصل: “بلّغ دولتك أنّ أهل المغاير تسلّحوا وصاروا صبّة نار” فتتجلى لي المدينة على هيئة امرأة قادمة من كتب الأمثال، فأقرأ: “تجوع الحرّة، ولا تأكل بثدييها”.
ثم من باب إلى باب، من باب قنسرين، إلى باب المقام، فأنطاكية، والجنان، والنيرب، والأحمر، والحديد، والنصر، فباب الفرج، أضرّجُ فضاء المدينة بالنداء: “فرَجٌ.. فرَج”، فأسمع: “والصبحِ إذا انبلجْ”، وما أكاد أوغل في وجْد الصدى، حتى يجتمع حولي أشهر دراويش المدينة عبر التاريخ. يدورون في رقصة مولوية باهرة، وهم يصدحون: “مددٌ.. مددْ.. يا واحد يا أحدْ”، فتردد جنبات الأحياء الرابضة منذ أوّل التاريخ على حدود الآريين وهي تدفع عن نفسها جحافل شهوتهم المجنونة إلى أنوثتها الخالبة: “سوى الأرض بددٌ.. بددْ”.
وحيّاً مستغرقاً في عقيق العراقة إثْر حي، وكمن يخفّف الوطأ لتباركه حجارة الطرقات الضيقة بشهادة المريد، تتوضّأ عيناي بندى ضاحك على أوراق الريحان، والغار، والياسمين، وما تباسق من أشجار الكباد والنارنج العاشقة للضوء، وللبرك والنوافير التي تتوسط الباحات. أتلفّت في المكان، أرى على كل باب خرزة زرقاء، ترد عن البيوت وساكنيها كيد الكائدين. ومن حيث لا أدري أسمع منادياً قادماً لتوّه من سنوات مضت يصوّت على مدينة ضاعت أو كادت تضيع: “يا سامعين الصوت. يا بصلاة محمد. يا ولاد الحلال. يا مردين الأمانات واللهفات”، ولم أكد أتلعثم بالحزن، حتى تصادى في المكان صوت كأنه التراتيل، فأسريت إلى سماء ما فوقها سماء. وكنت أقترب من مركز المدينة… من ساحتها الرئيسة. أسّاقط المطر غزيراً فجأة.
أنا مجنون المطر كما كانت تصفني امرأة أحبتني ذات زمن. تسمرتُ في مكاني أستحلف السماء أن تبدع أكثر، ثم كوّرت كفيّ كما يجب لتفيضا بالماء المنهمر، فأبدأ، كعادتي، طقوس الصلاة التي أدمنت عندما يبدأ الغيم نشيده المقدس. وما كدت أفعل، حتى فرّت قطرة من إحدى كفّي، وقبل أن تقبّل الأرض اصاعدت أمامي على هيئة أنثى باهرة الجمال، وثمة غلالة شفيفة بلون البنفسج تضيء جسدها الفائر صباً.. وبما يستطيع ساعداها من مدى خاصرتني، ثم ما إنْ استجبت لإيماءة من عينيها أن أراقصها، حتى بدت لي الساحة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر في قلب بشر..
وما شُبهَ لي… وما هيئ، فقد سمعت الساحة كلّها تؤذّن: حيّ على الحياة.