تحقيقاتصحيفة البعث

في ظل مفرزات الحرب الإرشاد النفسي والاجتماعي “الصديق الودود” للطالب.. ما حاله في مدارسنا؟

 

يعاني الآلاف من التلاميذ والطلاب في المدارس السورية من مشاكل نفسية واجتماعية خطيرة وصلت لدرجة الانفصام في الشخصية، والإدمان على المخدرات، وارتكاب الجرائم بحق أنفسهم وبحق الآخرين، وهم في غالبيتهم ممن كانوا في المناطق الساخنة وشاهدوا بأم العين ما ارتكبه الإرهابيون من جرائم قتل وذبح وضرب وحرق وخطف، وغيرها تقشعر لها الأبدان!.
هذه الحالة الطارئة على مدارسنا، وإن كانت موجودة سابقاً بنسب قليلة، من المفروض أن تستنفر جهود أركان العملية التربوية بكل الاتجاهات من أجل مواجهة الأخطار التي تهدد “جيل” الحرب، وتجرده من فاعليته في المجتمع الذي يحتاج لجيل واع خال من العقد النفسية، والأمراض الاجتماعية الخطيرة التي خلفتها الحرب!.

حراك نشط ولكن!
في العام الماضي كان ملاحظاً إيلاء الاهتمام للدعم النفسي والاجتماعي الموجّه بشكل خاص لطلاب المدارس والأطفال بمراكز الإيواء من خلال وزارة التربية، وكذلك من خلال وزارتي التعليم العالي والإعلام، بمشاركة عدد من الهيئات والمنظمات الشعبية والأهلية، لكن جردة حساب للنشاطات التي أقيمت رغم كثرتها وتنوعها لم تلامس بعد بشكل صحيح معاناة الأطفال والتلاميذ، فالخطر مازال قائماً!.
في سؤال طرحته “البعث” على عدد من الموجهين والباحثين والمعلمين حول المطلوب في المرحلة الراهنة والحالية لمعالجة “العقد” النفسية، و”الآلام” الاجتماعية في العديد من مدارسنا، تنوعت الإجابات وتعددت، لكن القاسم المشترك فيما بينها كان بالتأكيد على أن أطفال وتلامذة المدارس “ضحايا” الحرب يحتاجون إلى الكثير من الدعم النفسي والإرشاد الاجتماعي ليكونوا أصحاء وقادرين على استكمال تحصيلهم الدراسي دون تشويش!.

برنامج للدعم النفسي والاجتماعي
الأستاذ محمد عصفور، الموجّه الأول في وزارة التربية، بيّن أن الدعم النفسي للتلاميذ والطلاب من ضمن أولويات الوزارة، حيث إنها تدرك الخطر الكبير الذي تعرّض له التلاميذ والطلاب خلال سنوات الحرب، وخاصة في المناطق الساخنة، مشيراً إلى أن مشاهد الدمار والقتل والخطف وفقد الأهل والتنكيل والتعذيب التي كانت تمارس من قبل المجموعات الإرهابية تركت آثاراً خطيرة على تلاميذ المدارس، وجعلتهم في حالة نفسية مضطربة تحتاج إلى العلاج السريع وإلا كانت للأمر مخاطر في المستقبل ربما يصعب حلها!.
ولفت عصفور إلى أن المناهج في نسختها الجديدة لحظت هذا الأمر، مشيراً إلى وجود العديد من الدروس والصور التي توضح المخاطر، وتساعد في الوقت ذاته التلميذ للخروج من حالته النفسية المتأزمة من خلال الدعم النفسي والاجتماعي: “نحن نهدف إلى إعداد جيل واع خال من العقد النفسية والهموم من أجل أن يكون قادراً على المشاركة في إعمار البلد مستقبلاً”.
وأوضح أن لدى الوزارة برنامجاً للدعم النفسي أطلقته عام 2017 بالتنسيق مع منظمات عالمية كاليونسكو، وذلك بهدف تدريب القائمين على العملية التعليمية على طرق تطبيق الدليل للفئات المستهدفة، والمهارات التي يجب توافرها في المرشدين النفسيين والاجتماعيين الذين قاموا بجولات ميدانية برفقة موجهين تربويين واجتماعيين من أجل الاهتمام بتشخيص الحالة النفسية والاجتماعية في المدارس ليجدوا لها الحل تماماً، كما أنهم يشخصون الحالات التربوية والتعليمية، بالإضافة إلى الأنشطة اللاصفية التي تساهم إلى حد كبير في بناء شخصية التلميذ، وقيمه الروحية، وكسر حاجز العزلة والخوف لديه.

توصيف حالات العنف بكل أشكالها
يتفق رأي الدكتور محمود ميلاد، أستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق، مع الرأي السابق في أن معالجة العنف في المدارس تحتاج بالدرجة الأولى إلى تفعيل دور المرشد النفسي والاجتماعي لأنه الأقدر على توصيف حالة العنف بكافة أشكالها وحالاتها، وأشار ميلاد إلى الحاجة الملحة لجهة تكثيف ورش العمل والندوات في المدارس لتوعية التلاميذ والطلاب بخطورة ما حدث، ومساعدتهم لتخطي الحالات النفسية والاجتماعية الطارئة على حياتهم التي عاشوها خلال وجودهم في المناطق الساخنة، وأن تأخذ المناهج التربوية ذلك بعين الاعتبار عبر برامج مصممة لمعالجة ظاهرة العنف والظواهر الاجتماعية الأخرى التي فرضتها الحرب، وبذلك تتحقق الاستجابة والغاية المرجوة من قبل الطلاب، مشيراً إلى أهمية إعداد الكادر وتأهيله للقيام بهذه المهمة الصعبة.
وأشار إلى أن كلية التربية بجامعة دمشق ناقشت في رسالة ماجستير أثر الأزمة على الأطفال وطلاب المدارس، وكانت هناك أرقام وحالات مؤلمة تحتاج لمعالجة سريعة من أجل توفير الأمان النفسي والدعم الاجتماعي لطلاب المدارس.

برسم أصحاب القرار!
الباحثة والكاتبة في مجال العمل التربوي السيدة راغدة شفيق محمود أكدت أن المرحلة المقبلة تفرض على أصحاب القرار في وزارتي التربية والتعليم العالي التفكير بعقول متوقدة بهدف وضع خطط استراتيجية بعيدة المدى، ليس فقط لجهة تطوير المناهج، وإنما للتركيز على مواجهة ومعالجة آثار الأزمة بالتعاون مع المجتمع الأهلي والمنظمات الدولية ذات الخبرات والدراسات العلمية في أزمات الحروب، وطالبت محمود بإيجاد مدارس، أو ما يسمى مراكز إعادة تأهيل الأطفال والتلاميذ الذين عاشوا بين مجموعة من الإرهابيين، إذ يسيطر عليهم الذعر والخوف، أو العنف ومحبة تقليد المجرمين، بحيث تشرف عليها مجموعة من الباحثين والمثقفين من أصحاب الفكر المنفتح لأهم نظريات التربية في العالم، واستقاء ما يناسبنا من مسح للفكر الفوضوي الذي يسيطر على عقول الأطفال، والعمل على غرس حب الوطن بنسيجه المتنوع والمتآلف كما كان، ودعت إلى الاهتمام بالكتب والقصص والمسلسلات التي يجب أن تنتج وتعيد بناء الفكر وغرس المحبة، وبرأيها هذا يفرض على المثقفين إعادة النظر بمنتجاتهم الفكرية، والغوص إلى جواهر الفكر الإنساني، وبذلك يكون الكل مسؤولاً في هذه المرحلة الصعبة، لأن صناعة الإنسان من أشرف الصناعات، والاستثمار بفكر الإنسان خير استثمار.

صمام أمان!
المعلمة علا ربيع ترى أن آثار الحرب على التلاميذ والطلاب تفرض تفعيل دور المرشد النفسي والاجتماعي بحيث لا يبقى مجرد موظف في المدرسة، بل هو صمام أمان من أجل الحفاظ على الصحة العقلية والنفسية للطلاب، وتنمية قدراتهم على التعلّم، ومساعدتهم على النجاح أكاديمياً واجتماعياً وسلوكياً وعاطفياً، وكل ما يتعلق بالعملية التربوية والتعليمية.
وحول كيفية تواصلها مع طلابها داخل الصف أشارت إلى أنها تتيح لهم المشاركة في الدرس، وتشجعهم من خلال طرح أسئلة بسيطة عليهم ليستطيعوا الإجابة عنها، حيث يشعرون بالثقة بأنفسهم، موضحة أنها تحاول تعويض الفاقد التعليمي من خلال المراجعة لدروس سابقة، أو من لديه أية مشكلة نفسية أو اجتماعية ويخجل أن يسأل أمام أقرانه، فتحاول مقابلته لوحده وإرشاده بكل ما يحتاجه بطرق سهلة حتى لا يفوته شيء، وأضافت: دائماً أحرص على أن يكون المدخل إلى الدرس بقصة أو بموقف فيه عبرة، حتى المسرحيات التي أطبقها على دروس القواعد والقراءة والمشاريع التعاونية كلوحة مثلاً تقوي الروابط بين الطلاب عندما يتدربون عليها، وأختار طالبين متميزين، والباقي من المشاغبين غير المهتمين بالدراسة، فتسود روح التعاون والمحبة، ويشعرون بأنهم ليسوا أقل شأناً من الآخرين، وكم أسعد عندما يقولون ببراءة: “صرنا نحب المادة، وصارت مدرستنا حلوة لما ايجيتي لعنا”.
وفيما يخص مشاركة الأهل في هذه المسؤولية في حال كان الطالب يعاني من بعض المشاكل المتعلقة بالتعلّم، أو علاقته مع رفاقه، أو الشعور بالعزلة، أو بالاكتئاب، أو القلق، تحاول معهم البحث عن أفضل الحلول.

ضرورة وقائية وعلاجية
وبرأي المدرّس محمد نذير أن الأطفال والتلاميذ الذين عاشوا لسنوات في المناطق الساخنة، وشاهدوا عن كثب جرائم الإرهابيين، يحتاجون لمعاملة خاصة تخرجهم من حالتهم الصعبة، وهو مع فكرة وضعهم في مراكز خاصة لإعادة تأهيلهم نفسياً من أجل أن يشعروا بالاستقرار والأمان النفسي والاجتماعي، ومن ثم دمجهم تدريجياً في المدارس، لنصل بالنتيجة إلى تعزيز السلوك الإيجابي عند التلميذ، ونجعله يعتز بنفسه.
وتوافقه الرأي المعلمة ايلانا النمر، وتشدد على الإكثار من جلسات الدعم النفسي في المدارس، لأنه بات ضرورة ليس فقط لمعالجة الانحراف السلوكي العدواني، وإنما كوقاية من أي خطر قد يتعرّض له الطفل أو التلميذ في المدرسة، وخصوصاً في ظل هذه الظروف التي نتعرّض فيها للكثير من التحديات، وأخطرها محاولة إرهاب هذا الجيل وتلقينه الأفكار السوداء.

أهم خطوة
إذاً ظاهرة العنف وبعض الأمراض الاجتماعية قائمة في مدارسنا، وهي تحتاج إلى معالجة، ولعل أهم خطوة تأييد مفهوم الدعم النفسي والاجتماعي من خلال تفعيل دور المرشد الاجتماعي والنفسي، وتطوير المناهج التربوية لجهة تضمينها كل ما يعمل على الارتقاء بالمستوى النفسي والعقلي للتلميذ والطالب، وتوعيته بخطورة ما حدث، وما يمكن أن يحدث، والعمل من قبل الوزارات المعنية على وضع خطة لدمج مفهوم الدعم النفسي ضمن النظام التعليمي، وتدريب الكوادر لتكون قادرة على التعامل الصحيح مع كل حالة لتكون النتائج سليمة بعيداً عن الاجتهادات الشخصية!.
غسان فطوم