الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

يُحكـــــــى أنَّ

 

 

د. نضــال الصـــالح

وممّا يُحكى، ويتواتر في كتب التراث ومنها “محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء” للراغب الأصفهاني، أنّ كركياً كان يجيء كلّ يوم إلى شاطئ نهر، فيلتقط من الحمأة (الطين) دوداً، ويقتصر في القوت عليه، فرأى يوماً صقراً قد ارتفع في الجوّ، فاصطاد حماماً، فأكل منها بعضاً وترك في موضعه بعضاً، وطار. فتفكّر الكركيّ في نفسه، وقال: ما لي لا أصطاد الطيور كما يصطاد، وأنا أكبر جسماً منه؟ فارتفع في الجوّ، وانقضّ على حمام، فأخطأه، فسقطَ في الحمأة، فتلطّخ ريشه، ولم يعد قادراً على الطيران، فالتقطه قصّار (مبيّض الثياب) كان يعمل على شاطئ النهر، وحمله إلى منزله، فرآه رجلٌ، فسأله: ما هذا؟ فقال: كركيّ يتصقّر.
وممّا يُحكى في قصص الأطفال أنّ غراباً رأى طاووساً، فأعجب بريشه ومشيته، فعزم على أن يكون شبهه، وأخذ يجمع ما يتساقط من ريشه، ثم نزع ريشه نفسه، ووضع ريش الطاووس مكانه، ثم أخذ يقلّد الطاووس في مشيته بخيلاء وزهو بالنفس، وعندما اشتدت حرارة الشمس وتساقط الريش الزائف، ظهر عارياً مثيراً للشفقة، وما كاد يحاول استعادة مشيته، حتى تعثّر، فسقط، فأثار ضحكات الطيور حوله.
التكلّف توءم الزعم، والثاني توءم الكذب وواحد من عبيد مملكته، وبين كليهما آصرة لا تنقطع ودالّة لأحدهما على الآخر، لأنهما معاً يعنيان نقيض الحقيقة، فالأول، التكلّف، يشير إلى غياب القوة اللازمة للقيام بعمل، ومن ذلك ادعاء الكرم من دون ما يعين عليه، أو من دون فطرة في فاعله، والبطولة من دون ما يستلزم أول حرف من أبجديتها، والعلم من دون مؤونة معرفية لازمة له، و.. ومن ذلك قول المعرّي: “والخيرُ يفعله الكريمُ بطبعه / وإذا اللئيم سخا، فذاك تكلّفُ”، أمّا الثاني، الكذب، فشأن شخص يقف على رأسه بدلاً من وقوفه على قدميه، أو شأن ما تفعله المرآة المقعرة التي يقول علم الفيزياء إنّ صورة الشيء عند نقطة معينة منها تظهر مقلوبة، وأكبر ممّا هو هذا الشيء عليه في الواقع.
لقد عدّت العرب تكلّف المرء ما ليس لائقاً به، وما لا يستطيع، من السفه والعبث، والسفه، لغةً، ضدّ الحِلم، وأصله، كما يقول الصحاح، الخفّةُ والحركة. يُقال: تسفّهت الريحُ الشجر، أي مالتْ به، وتسفّهتُ فلاناً عن ماله، إذا خدعته عنه. والعبثُ، بفتح الباء: اللعبُ، وبتسكينها: الخلْطُ. وفي كتب البلاغيين التكلّف ضدّ الطبع، وهذا الأخير، حسب البلاغيين أنفسهم، ما كان أصلاً في الشيء، وفطرة، ومتناً في المطبوع لا هامشاً فيه.
أجل، التكلّف سفهٌ وعبث، وخفّة، وخلط، وسوى ذلك ممّا يتفشى بين غير قليل من الناس الذين يزعمون معرفتهم بكلّ شيء، ومقدرتهم على أداء أيّ شيء، فيدلون بدلائهم في الفلك والأدب والرياضيات والمعارك العسكرية و… ويتنطعون للمسؤوليات الجليلة وهم ليسوا على قدر صغير منها، فيكون ما كان من أمر الكركي الذي تصقّر، ومن الغراب الذي تطوّس.
وبعد، فإنّ ثقافة لا أعرف، أو لا أستطيع، أسٌّ في العقل والمجتمع السليم، وغيابها دالّ على نقيضه، المستقيل أو السقيم.