دراساتصحيفة البعث

المثلث العسكري الأوروبي

ترجمة وإعداد: مازن المغربي

باشرت حكومة ألمانيا الاتحادية، بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، السعي لتعاون شامل على مستوى السياستين الخارجية والعسكرية مع بريطانيا، حيث طالب وزير الخارجية هايكو ماس بضرورة الوصول إلى أشكال تعاون مع لندن، وينطبق هذا بشكل رئيسي على السياسة الخارجية وعلى السياسة العسكرية.

ومن جهتها بادرت وزيرة الدفاع الألمانية، آنيغريت كرامب- كارين باور، إلى طرح اقتراح تعاون ثلاثي يجمع ألمانيا وبريطانيا وفرنسا يمكن أن يعمل بوصفه القيادة السياسية والعسكرية للاتحاد الأوروبي. وكانت لندن عبّرت عن اهتمامها بتعاون عسكري وثيق مع برلين وبروكسل. وينبع اهتمام لندن بالتعاون مع بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، من حرصها على أن تنال الشركات البريطانية حصة من عقود تسليح الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يمكن أن يخضع للتضييق إثر البريكسيت.

وفي الواقع واظبت حكومة ألمانيا الاتحادية منذ سنوات على تعزيز التعاون العسكري مع بريطانيا، حيث ظهر الاهتمام بالتعاون العسكري الألماني البريطاني منذ سنوات سبقت الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ويرجع سبب هذا التوجه إلى تحفظ بريطانيا على دمج جيشها في إطار قوات مشتركة تابعة للاتحاد الأوروبي.

كما يدخل هذا التوجّه الألماني للتعاون مع بريطانيا في إطار توثيق الصلات مع حلف الناتو، مع المحافظة على وجود خيار بديل. وتجسّد هذا المسار بزيارة وزير الدفاع البريطاني السابق السيد مايكل فالون إلى برلين في الثاني عشر من شهر آب 2014، وتلاه ردّ الزيارة من قبل وزيرة الدفاع الألمانية وقتها السيدة أورسولا فون ديرلاين في الحادي عشر من كانون الأول  2014.

ونجد تعبيراً عن الاهتمام البريطاني في الإستراتيجية البريطانية العسكرية بعيدة المدى التي تمّت صياغتها عام 2015 تحت عنوان “مراجعة الإستراتيجية الدفاعية والأمنية”، حيث ورد فيها لأول مرة الإشارة إلى ألمانيا بوصفها حليفاً عسكرياً مركزياً إلى جانب الولايات المتحدة وفرنسا وجاء فيها حرفياً: “سنتابع تعزيز علاقاتنا الدفاعية والأمنية مع ألمانيا”.

لم يتولد عن الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تداعيات على التوجّه الاستراتيجي بعيد المدى لدى الطرفين. فخلال زيارة وزير الدفاع البريطاني السيد مايكل فالون إلى معرض نظمته السفارة الألمانية في لندن في شهر تشرين الأول 2016 عبّر في كلمته بوضوح عن تمسّك بريطانيا بسياستها المتعلقة بالأمن الأوروبي، بغضّ النظر عن الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي.

وفي شهر شباط من عام 2017 أعلنت وزيرة الدفاع الألمانية بدورها عن السعي لتوثيق التعاون بين الجانبين، وفي الخامس من تشرين الأول 2018 وقّعت وزيرة الدفاع الألمانية مع وزير الدفاع البريطاني الجديد غافين ويليامسون تصريحاً حول رؤية مشتركة حدّدت إجراءات ملموسة تضمنت تحسين مستوى التدخل في أوروبا، وعمليات تأهيل ومناورات مشتركة إلى جانب لقاءات ثنائية منتظمة على مختلف المستويات. وفي الثامن والعشرين من شباط 2019 اجتمعت فون ديرلايين مجدداً مع السيد ويليامسون في أكبر قاعدة جوية بريطانية في أول لقاء رسمي لمجلس الدفاع المشترك، وأشارت السلطات البريطانية في تعليق على الاجتماع إلى أن وزير الدفاع البريطاني سيلتقي نظيره الفرنسي، كما أشارت إلى عقد اجتماع تشاوري بين وزير الدفاع الفرنسي ونظيرته الألمانية بهدف إنجاز مثلث أمني قويّ في أوروبا.

بناء سياسة عالمية مستقلة

إن اهتمام بروكسل وبرلين من جهة أولى، ولندن من جهة ثانية، بإنشاء تعاون عسكري يتطابق في نقطة مركزية إنما يتباين أيضاً، حيث تسعى ألمانيا والاتحاد الأوروبي في المقام الأول إلى امتلاك القدرة على توظيف القوة العسكرية البريطانية، وهي الأقوى في غرب أوروبا، في العمليات القادمة في المستقبل. أما في ما يخصّ المملكة المتحدة فمن بين الأمور التي تدفعها في هذا المسار الرغبة في ألا تكون معزولة عن التطورات العسكرية في الاتحاد المحاذي لحدودها. لكن بريطانيا مهتمّة قبل أي شيء بإيجاد خيار بديل للتعاون العسكري مع الولايات المتحدة، ولهذا يرتبط هذا التوجّه جزئياً بواقع سعي لندن، بعد خروجها من الاتحاد، إلى إبرام عقود دسمة مع مختلف بلدان الاتحاد ومع الولايات المتحدة، وكذلك مع بلدان آسيوية ولاسيما الصين، مع الحرص على أن يكون لديها مجال أوسع في ما يتعلق بسياساتها الخارجية في مواجهة الولايات المتحدة.

ومن الضروري  الإشارة إلى عدم رضا لندن عن مسار السياسة الخارجية التي تتبعها الولايات المتحدة، الأمر الذي حثّ العاصمة البريطانية على السعي لإيجاد بدائل، وهذا يتوافق مع مخططات برلين والاتحاد الأوروبي لضمان موقف مستقل عن واشنطن في ما يتعلق بسياسات التسلح.

ومن اللافت للانتباه أن مخططات التعاون العسكري قد تمّت عرقلتها منذ زمن طويل من قبل الصناعات العسكرية، الأمر الذي أدى إلى حصر قيادة مشروع بناء الجيل التالي من الطائرة المقاتلة الأوروبية في فرنسا وألمانيا وحدهما بمشاركة صناعية إسبانية، كما تمّ منذ عام 2018 استبعاد بريطانيا من المشاركة في تصنيع طائرة إيرباص بعد حظر الاستعانة بنظام بي. إيه. آي البريطاني، بحجة أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا يترك مجالاً لتعاون عسكري وثيق معها.

وكانت الشركات البريطانية قد باشرت التعاون مع شركة ليوناردو الإيطالية ومع شركة ساب السويدية، بهدف تطوير طائرة مقاتلة تعتمد التقنيات العالية، وهناك تسريبات بأن هذا المشروع يتمتّع بدينامية متفوقة على دينامية المشروع الفرنسي- الألماني، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تتمكّن المقاتلة البريطانية الإيطالية السويدية المشتركة من إيجاد زبائن يكفون لتغطية التكاليف الهائلة؟.

وثمّة تباينات مماثلة رافقت بناء نظام الملاحة المتصل بالأقمار الصناعية خاص بالاتحاد الأوروبي، حيث استبعدت بروكسل الشركات البريطانية ولم تسمح لها بالمشاركة في نظام غاليليو، بحجة عدم جواز مشاركة دولة غير عضو في الاتحاد الأوروبي في بناء نظام يفترض أن يُستخدم لتلبية أغراض عسكرية، استناداً إلى معطيات تتعلق بأمن الاتحاد الأوروبي. وأدى هذا إلى خسارة بريطانيا لمبلغ مليار ومائتي مليون جنيه كانت استثمرتها في مشروع غاليليو. والآن صار همُّ بريطانيا منحصراً في بناء نظام ملاحة مرتبط بالأقمار الصناعية خاص بها وطرحه كمنافس لنظام غاليليو. ومن المرجح أن يتمّ تطوير النظام البريطاني بتعاون وثيق مع الدول المنضوية ضمن شبكة الاستخبارات المعروفة تحت اسم “العيون الخمس” وهي كندا، وأستراليا، ونيوزيلاندا، والولايات المتحدة الأمريكية، أي أن إبعاد بريطانيا عن مشروع غاليليو دفعها للاصطفاف إلى جانب  الولايات المتحدة. وتسعى برلين، بغضّ النظر عن هذه الاختلافات، إلى بناء تعاون عسكري سياسي مع المملكة المتحدة، حيث صرّحت وزيرة الدفاع الألمانية في السابع من تشرين الثاني الماضي بأن على المرء إيجاد طرق للمحافظة على ربط بريطانيا بالأمن الأوروبي، واقترحت بناء  ذلك على  شكل مثلث من التعاون العسكري يربط التعاون الفرنسي الألماني ببريطانيا، كما كانت عليه الحال خلال المحادثات النووية مع إيران. كما صرّحت الوزيرة الألمانية في السادس عشر من شهر كانون الثاني المنصرم في خطاب ألقته في مدينة لندن بأنها تسعى إلى فسح المجال أمام شركات الصناعات العسكرية البريطانية لتعزيز مشاركتها في مشاريع الاتحاد الأوروبي في المستقبل. إنما لن نعرف إن كان هذا سيتحقق عملياً إلا عندما يتمّ تحديد الأموال المخصّصة للتسلح في ميزانية الاتحاد الأوروبي، حيث إن التعاون مع بريطانيا يمثل توجهاً عاماً لدى الحكومة الألمانية، لذا لا يفاجأ المرء بمطالبة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في مقال نشر قبل بضعة أيام بشراكة أوثق مع بريطانيا العظمى، إذ اقترح تشكيل مجلس للأمن الأوروبي يمكن في إطاره التوافق على القضايا الإستراتيجية المتعلقة بالأمن الأوروبي يفسح المجال للتعاون السريع عند الأزمات.