الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

وقـــــــائع

د. نضــال الصـــالح
طفوْر جلوسِه قال: “نكاد نكون في زمن “(إذا وقعتِ الوّاقِعة) لغرابة ما ضربه من أحداث حفرت في العمق، وستحتاج لأزمنة واسعة، ولابتكارات حلول ناجعة، لا للتخلّص منها، بل لتخفيف آثارها، هذا مع توفيق الله”.
أجابه: “هدّئ قليلا يا صديقي، فأنت لم يستقرّ بك المجلس بعد، ملأتَ ما حولي بالضباب المَشوب بالتّشاؤم”.
قال: “إنّي أغبطك أنّك ما تكاد تَرى أحداً، لأنّ رؤية النّاس لم يعد فيها ما يريح، أو يُبهج، أو يشفي من ملالة، الكلّ لا يتكلّم إلاّ عن ضيق الأحوال، وعن الغلاء، وعن الحصار وآثاره، وعن الفساد الذي استشرى حتى بلغ حدّاً لم نعرفه من قبل”.
قال له: “أمهلني حتى أعدّ القهوة، وأجلس مطمئنّاً إلى أنّني لن أقوم، فلقد ضعفت همّتي حتى صار يهمّني الوقوف قرب الغاز لإعداد القهوة”، ونهض وعاد بعد فترة يمشي مشية مَن تركت السنوات المديدة أثراً في مشيته، كما في هيئته، وبعد أن صبّ القهوة، وأشعل صديقه سيكارة، قال له: “أنا جاهز لسماع ما عندك، عسى أن يخفّف البوحُ بعضه”.
قال صديقه: “اسمعْ، لديّ أكثر من موضوع”.
أجابه: “ابدأ من حيث شئت”
قال: “لي صديق أمضى عمره في مهنته التي أعطاها الكثير من ألق وجدانه، فعمل دهّاناً في سوريّة، وخارجها، وكان مَن حوله حيث عمل، يميّزون عمله من جودة إتقانه، وهو في كلّ ذلك مدفوع بذلك الوجدان الجوّاني الذي لا يرضى إلاّ الجيّد من الأمور، وعاد منذ سنوات، ولديه أسرة، ونسيتُ أن أذكر لك أنّه كان يعشق المطالعة، فهو بعد عمله، حين يريد أن يرتاح يفتح كتاباً ويقرأ، في الفترة التي غاب عنها عن هذا البلد نشأ أبناؤه، ورغم أنّهم مهذّبون، وعاقلون، ويحبّون فعل الخير، فإنّ أحداً منهم لا يطيق المطالعة، وهم حين يجتمعون يعكف كلّ على شاشة موبايله، فيكاد يفقد آخر ذرّة صبر يحملها، وهذا ما خلق حالة من التوتّر الخفيّ”.
قاطعه: “قلْ لصديقك هذا لا يُتعب نفسه، نحن أمام جيل تمّت قَوْلَبتُه على ما ذُكر، وإذا أردنا تدارك ما وقع، فلْنعدّ الخطّة للأجيال القادمة”.
قال: “صديق آخر أذهب إليه أحياناً، وهو من جيلنا ممّن تراكمت سنوات العمر على كاهليه، وهو رجل أنيس المعشر، جذّاب الحديث، يكاد في عُزلته ما يَرى إلاّ مَن يجئ لمجالسته، وأراد أن يدخل عالم “الفيسبوك”، وحين تفاجئه مُشكلة يلجأ للاتصال بأحد أبناء عائلته ممّن تراهم كالجنّ في قضايا الكمبيوتر والموبايل، أمّا حين تتتبّع دراستهم فستجد في نفسك كّمّاً من الغمّ والحزن، حتى أنّ أحدهم قالها بالفم الملآن أنّه حتى لو حصل على شهادة جامعيّة، فماذا يعني ذلك؟! كلّه حدّ بعضه، ولذا يقول في مجالسه أنّه تتلمذ على يد أحفاده، وليت أحفاده يعرفون كيف يتتلمذون على يد هذا الشيخ”.
هزّ برأسه قليلا، وعلتْ غمامة حزن وأسف ملأت سماوات وجهه، وقال له: “تابع” قال: “أمّا آخر ما لديّ فقد قرأته على إحدى صفحات الفيسبوك منسوبأً إلى بلد في أفريقيا، نسيت اسمه، خلاصة ما قرأت أنّ ظاهرة بيع أسئلة الامتحان في الجامعات، في ذلك البلد، قد شاعتْ، كانت في البداية تجري في الخفاء، وبتكتّم، ولمّا لم تجد هذه الظاهرة مَن يردعها تفشّت، حتى أنّ صبيّة تقول إنّها دخلت في تلك الجامعة على موظف صديق لها، فرأت بين يديه أكداسا من المال، فدُهِشتْ وسألتْه: “هل أصبحت تعمل في المحاسبة”؟! أشار لها بحركة رأسه أنْ لا، فقالت له: “ما هذا”؟ قال: “هذه أموال الطلاّب التي دُفعت لي لإيصالها إلى أصحابها من الذين يضعون الأسئلة، وأنا مجرّد مفتاح، لي نسبة بسيطة على ما أجمعه، قالت له مستغربة: “هكذا عينك عينك”؟! قال: “هكذا إيدك إيدك”، اسمعي إحدى الطالبات الجميلات دخلت مكتب أستاذها وسألتْه عن إحدى المواد، فأجابها: “مئة ألف” وصعّد نظره في جسدها الجميل، وتابع: “هناك بدائل”، فخرجتْ، وتركت الجامعة.
aaalnaem@gmail.com