“لعبة التزييف” فيلم الدراما المُنوعة
العاصمة تحت القصف الجوي، راية “الصليب المعقوف” ترفرف فوق أكثر من 25 بلدا أوروبيا، كل دقيقة تمرّ يُقتل 3 جنود في مواقع القتال، المجاعة تضرب أطنابها في البلاد، المساعدات الغذائية لا تصل فغواصات “الرايخ” تصطاد كل السفن العابرة؛ إنها الحرب العالمية الثانية، بريطانيا “العظمى” مُدماة، مشلولة، عاجزة أمام ما يفعله بها الألمان وبالتحديد أمام العقل الألماني، ولا أمل بالنجاة إلا على يد أهل العلم، فالشيفرة “إنتيجما” التي يستخدمها جيش هتلر للتواصل الاستخباراتي بين الفرق والوحدات العسكرية المختلفة لا حل لها، وإن بقي الحال على ما هو عليه، فلن يطول الوقت قبل أن تخرّ بريطانيا بعظمتها مستسلمة عند أقدام “الرايخ”.. ما الحل؟ هذا ما يقدمه فيلم السيرة الذاتية “لعبة التزييف” المأخوذ عن كتاب السيرة “اللغز”، سيناريو غراهام مور، وإخراج مورتين تيلدوم، وهو يحكي قصة آلان تورنغ الرجل الذي أنقذ بريطانيا والحلفاء من الهيمنة النازية على العالم في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت ستقع لا محالة لولا العلم وأهله، واحدة من أهم رسائل الفيلم.
تستدعي الاستخبارات البريطانية خيرة علماء الرياضيات في البلاد، وتطلب إليهم وبشكل سري جدا العمل على فك الشيفرة، يتم تشكيل فريق للمهمة. يبدأ هذا الفريق العمل بشكل محموم تحت ضغط هائل من الأخبار القاسية التي تنهال عليه لحل لغز “الإنتيجما”، ومن أعضاء هذا الفريق آلان تورنغ عالم الرياضيات الشهير، أدى دوره ببراعة فائقة الممثل بينيدكت كامبرباتش الذي سيتعرض للتنمر من قبل باقي أعضاء الفريق بسبب شخصيته الانطوائية وميله للعزلة، وفي الوقت الذي ينهمك فيه حتى أخمص أذنيه بالعمل لحل الشيفرة، تكون السخرية والدسائس من بعض أفراد الفريق هي ما يتلقاه. يمسك تورنغ بطرف خيط الحل، لكن أحدا لا يصيخ السمع إليه، ويعمل أحد أعضاء الفريق على حمل قيادته المباشرة لطرده بحجج كثيرة منها اتهامه بالجاسوسية لصالح الاتحاد السوفيتي، لكنه يتمكن بطريقة ما من إرسال رسالة إلى تشرشل رئيس الحكومة البريطانية ليضعه بما توصل إليه في عمله.. عاجلا يأتي الرد بتسليمه قيادة الفريق، لتبدأ الرحلة الصعبة من العمل. يستغني تورنغ عن خدمات بعض من أفراد الفريق، فهو يجدهم ثرثارون وغير قادرين على التفكير بشكل علمي ومنطقي، وهم بذلك يشوشون على العمل أكثر مما يخدموه، لكن الاحتمالات التي يجب عليه وفريقه التعامل معها، تحتاج إلى 20 مليون سنة لحلها، الحبكة تتعقد خيوطها، يطلب تورنغ المساعدة من المؤهلين لذلك، ويعمد إلى إجراء مسابقة عن طريق الجرائد المحلية، تقوم على حل الكلمات المتقاطعة، وهنا ستدخل إلى سياق الأحداث الشخصية النسائية التي ستكسر من حدة المزاج الذكوري العام للفيلم، فواحدة من اللواتي فزن بالمسابقة ستنضم إلى الفريق جوان كلارك – أدت دورها الممثلة كيرا نايتلي، والتي ستلتحق بالفريق وتصبح الشريك الحقيقي والداعم النفسي والمعنوي الأهم لـ تورنغ خلال فترة حياته كلها.
يستمر العمل الشاق تحت الضغط الهائل حتى يصل إلى مرحلة يبدأ فيها الجميع بالتشكيك بقدرة تورنغ على حل الشيفرة، فالجهاز الذي اخترعه وأطلق عليه اسم صديق طفولته، والذي يُعتبر النسخة الأولى للكومبيوتر، لم يقدر على فك الشيفرة، وذلك بسبب عدم قدرته على تحديد الكلمات “المفتاحية” التي تعتمد عليها شيفرة “الرايخ”، إلا أن هذا الأمر سوف يُحل بالصدفة البحتة، والتي تعتبر دلالتها من مقولات الفيلم “الحل قد يكون في أكثر مكان لا تتوقعه، ومن أكثر شخص بعيد عن المشكلة”، وهذا ما يحدث بعد أن قامت صديقة نايتلي، التي تعمل في اعتراض الإشارات اللاسلكية، بتقديم معلومة تبدو غير مهمة في السياق، لكنها ستكون هي الحاسمة في نجاح كل المهمة.
الفيلم الحائز على جائزة “اختيار الجماهير لأفضل فيلم” وهي أعلى جائزة في مهرجان “تورنتو السينمائي الدولي” في نسخته الـ 39، يسرد الأحداث بعدة تقنيات، منها “السرد خلفا”، وذلك ضمن اعتماد بناء “أرسطي” لكل مشهد، المزاج العام للفيلم يحقق انسجاما بصريا وفنيا متكاملا في تقديم الحكاية، إذ لعبت السينوغرافيا الفيلمية “الديكورات، الأزياء، الموسيقا، الإضاءة، الألوان، وغيرها من مفردات السينوغرافيا”، دورا مهما في نقل تلك المرحلة الزمنية وحياة الشخصيات وطبيعة الأحداث، إلا أن اللافت هو أداء بطل الفيلم، الممثل البريطاني بيندكت كامبرباتش، فعدا عن صوابية اختياره للدور من جهة تحقيقه لسمات الشخصية الشكلية، فإن الأداء الذي قدمه جاء مبهرا، رفيعا، صافيا، خصوصا وأن شخصية تورنغ هي شخصية ذات أبعاد سلوكية ذات منشأ نفسي مضطرب، فالفيلم أولا وقبل كل شيء يقدم سيرته الذاتية، بداية من مراحل حياته الأولى وصولا إلى وفاته، وما مرّ به من اضطرابات نفسية عنيفة نتج عنها اضطرابه السلوكي، سببها فقده المبكر لصديق طفولته ودراسته المبكرة، عندما قتله السل، في رمزية بارعة للعقاب السماوي لكل من تورنغ ورفيقه، اللذين يكنان لبعضهما مشاعر مضطربة، وهنا لا بد من أن الفيلم عمل على مغازلة الجوائز السينمائية الأهم في العالم، من خلال عرضه لهذا الجانب من حياة تورنغ، والذي تفضله تلك المهرجانات، لكنه لن يقدمه فقط لأجل الاستعراض، بل إنه يحتج أخلاقيا وبشكل ضمني على تلك المشاعر التي يعزوها إلى المشاكل العائلية، وأثرها الحاد على عوالم أحد أفرادها ومنذ فترة الطفولة.
“لعبة التزييف” من الأفلام البارعة التي تجمع، إلى جانب السيرة الذاتية، كلا من الإثارة و”الأكشن المعتدل” و”الرومانس”، والجانب النفسي، والتي جاءت لتكون من الخطوط الداعمة جماليا وتقنيا للخط الرئيسي، وهو يقدم العديد من الرسائل الإنسانية والاجتماعية والعلمية أيضا، ويحقق فرجة سينمائية مُرضية ومشبعة لعشاق الفن السابع.
تمّام علي بركات