الــجـــــــــــــــلاء.. هو الدنيا وزهوتها
إ. أحمد
شكّلت ملحمة الجلاء الملهم الذي استوحى منه الأدباء والشعراء موضوعات رواياتهم وقصصهم وأشعارهم- هذه الموضوعات جسّدت نبض الحياة في صيرورة النضال الوطني التحرري والانتصار على قوى البغي والاستعمار، واستعرضوا بطولات الآباء والأجداد، وجسّدوا في كتاباتهم وأشعارهم ملاحم الوحدة الوطنية الداخلية التي لم يكن لها مثيل من: ثورة الساحل بقيادة المجاهد الشيخ صالح العلي إلى ثورة الشمال بقيادة الزعيم الوطني إبراهيم هنانو. ومن ثورة دمشق وغوطتها بقيادة البطل حسن الخراط، والبطل محمد الأشمر التي عانقت ثورة جبل العرب الأشم بقيادة المجاهد الكبير سلطان باشا الأطرش، إلى باقي الثورات التي عمّت الأرض العربية السورية لتعيد لسورية الألق والبهاء والسؤود.
في يوم الجلاء نستذكر الدماء الطاهرة الذكية التي جاد بها أولئك الشرفاء في معارك الكفاح لاستعادة كرامة الوطن وحريته، لأن شجرة الحرية لاتُروى إلا بدماء الشهداء.. يوم الجلاء هو اليوم الذي سطعت شمسه فكانت إشراقاً ودفئاً بددّ ضوءها عتمة الليل والاحتلال، وكان جلاء القهر والظلم، جلاء المحتل الغاصب لتبدأ مسيرة الحرية، مسيرة الاستقلال وبناء الغد المشرق لوطن كسر حاجز الخوف وحطّم قضبان القهر وانطلق نحو الأفق الرحب يعزف قصيدة الحرية الحمراء المعمّدة بدم الشهداء الأبرار الذين سقطوا على درب الحرية التي أضاءت فضاءات الوطن بمشاعل النور.
لقد ساهم الأدب الروائي في تسجيل ملحمة الجلاء وخطّ سطورها، وتفجرّت قرائح الشعراء، وعاشوا الوقائع عن كثب وكتبوا ما كتبوا، وهم شهود لما جرى وهم بصيرة واعية وبصر بما يجري، ولأجل هذا كان إبداعهم حيّاً وفاعلاً ومؤثّراً، فقد غمس شعراؤنا كلماتهم بعطر النضال والإبداع، فلم يكونوا بعيدين عن المشاركة في النضال من أجل حرية الوطن، وكان لكل منهم دوره، ولكلماتهم نصيبها في هذا النضال، فقد كانت صرخة الحق والإرادة التي عبّر عنها الشاعر بدر الدين الحامد في قصيدة حماسية لاتزال معانيها في الوجدان والضمير:
يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها
لنا ابتهاج وللباغين إرغام
ياراقداً في روابي ميسلون أفق
جلت فرنسا وما في الدار هضّام
وتقدّم بدوي الجبل الشاعر الملهم المتفّرد ليفرغ ما في نفسه من فرح وذكريات، وكانت صورة المعركة بما فيها من ضحايا وأشلاء ودماء، بما كُرّمت من شهداء هي المسيطرة على قصيدته:
وتعرف هذه الحصباء مّنا
دماً سكباً وهامات وراحا
وأشلاء مبعثرة تمنّت
على البيد، الشقائق والأقاح
يرفّ على خمائل غوطتيها
هوى بطل على الغمرات طاحا
وكان صدى الجلاء عميقاً في نفس شفيق جبري، حيث الفرح المنبجس من تلك اللحظات التاريخية المشهودة على قصيدته التي جاء فيها:
حلم على جنبات الشام أم عيد
لا الهم همٌّ ولا التسهيد تسهيد
أتكذب العين والرايات خافقة
أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد
لقد كان الجلاء مفخرة الأجيال، مفخرة كان فيها شرف النضال من أجل حرية الوطن، فتحقق النصر المؤزّر، واندحر الفرنسي مخذولاً مهزوماً أمام ملحمة الإباء الوطني الخالد. يقول الشاعر خليل مردم بك:
أيوسف والضحايا اليوم كثرٌ
ليهنك كنت أول من بداها
فديتك قائداً حيّاً وميتاً
رفعت لكل مكرمة لواها
فيا لك راقداً نبهت شعباً و
أيقظت النواظر من كراها
أما الشاعر عمر أبو ريشة، فقد تخيّل الجلاء عروساً في ليلة جلوتها. فيقول:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهب
لن تري حفنة رمل فوقها
لم تُعطّر بدماً حرّ أبيّ
وكان للشعراء العرب مشاركة وجدانية احتفاءً بوردة الحرية في يوم الجلاء. فها هو الشاعر أحمد شوقي يقول:
سلامٌ من صبا بردى أرقٌّ
ودمعٌ لايكفكف يا دمشق
وللأوطان في دم كل حرّ
يدٌ سلفت ودينٌ مستحقٌ
أما علي محمود طه فيقول:
دمشق يا بلد الأحرار أيّ فتى
لم يمتشق فيكِ سيفاً أو يخضر غاراً
ويبقى الجلاء عيد الأعياد، ويبقى له في الذاكرة والوجدان مكانة خاصة ومعنى خاصاً، فالشعب الذي اختار الكفاح أسلوباً والاستشهاد نهجاً، ومقاومة الغزاة استراتجية والدفاع عن كرامة العرب وكل ذرة من التراب واجباً قومياً، هو الشعب الذي طرد الغزاة وحقق النصر، وهو الذي سيطرد برابرة العصر الحديث، الانكشاريون الجدد أعداء الحضارة الإنسانية.