منظومة الليبرالية بعد “كورونا”
ريا خوري
بعد القراءة المطوَّلة والبحث المستمر عن التطورات الاستراتيجية في العالم، رأينا أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الأوروبية ستعيش حالة أقلّ ليبرالية بعد جائحة كوفيد 19 (كورونا)، فالليبرالية التي تعني (الحر) هي مذهب فكري وسياسي واقتصادي يمكن تطبيقها حسب ظروف وأخلاق المجتمع والدولة، وهي فلسفة سياسية تأسست على فكرة الحرية والمساواة، وتتمثّل بتأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخُّل الدولة بشكلٍ مباشر في حياة الأفراد، وهي المكوِّن الاقتصادي الأساسي لليبرالية الكلاسيكية التي تشدِّد على الحرية، في حين أنَّ المبدأ الثاني هو المساواة التي تتمظهر بشكلٍ جلي في الليبرالية الاجتماعية، من هنا يدعم الليبراليون مجموعة كبيرة من الأفكار والآراء تبعاً لهذين المبدأين، ويدعمون حرية الصحافة وحرية التعبير والحرية الدينية والحقوق المدنية، والسوق الحر، والحكومات العلمانية ومبدأ الأممية والمجتمعات الديمقراطية. لقد كان إدراك القادة والمخططون الاستراتيجيون في الولايات المتحدة الأمريكية مثل غيرهم من دول العالم يقفون على أعتاب عصر جديد وعالم جديد تشّكَلت ملامحه الأولى قبل ظهور فايروس كوفيد 19 (كورونا)، وهو ما سيخلق واقعاً عالمياً جديداً، لكنه سيسهم في صناعته ويسرع في اكتمال ملامحه، لكن من الواضح تماماً أنَّ المخاض يمكن أن يكون مؤلماً جداً، وهو لم يستثن أحداً فقيراً كان أم غنياً، أبيض أم أسود، ضعيفاً كان أم قوياً. لقد تكفَّل الفايروس بتغيير نمط حياتهم الاقتصادية والسياسية وحتى الفكرية بغير إرادتهم، ومن المتوقع في نهاية المطاف أن لا تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من أن تبقى القطب الأوحد كما حصل معهم منذ الحرب الباردة. غير أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية استمرت في طغيانها بإصرارها على تجاهل ما يصيب العالم من تغييرات جوهرية، وما زالت متمسكة بتلابيب الدبلوماسية (دبلوماسية المدفع) للتعامل مع الأزمات والصراعات الدولية و إدارة علاقاتها الدولية الخارجية، واستمرت بعدم السماح لأيِّ كان أن يرشدها لغير استراتيجيتها. فقد تنادى عدد كبير من المفكرين والعلماء والخبراء لدعوة الرئيس دونالد ترامب والعاملين الفاعلين في البيت الأبيض البنتاغون لبلورة استراتيجية جديدة لقيادة العالم.
لقد احتاجت الولايات المتحدة الأمريكية إلى أزمة بحجم جائحة كوفيد 19 (كورونا) لكي تعترف أمام العالم بالحقيقة التي أخفتها طويلاً، وهي أنَّ قدراتها وإمكانياتها التي تؤهلها لقيادة العالم وتبقى القطب الأوحد قد تآكلت، وسيطرتها ونفوذها بدأ ينكمش بينما النظام العالمي أحادي القيادة بدأ يترنح، فاسحاً المجال لظهور قطب جديد غير الولايات المتحدة. وهكذا يمكننا القول بأنَّ جائحة كوفيد 19 (كورونا) قد جاءت في الوقت المناسب والحاسم كي يتم تنفيذ حكم الزمن والتاريخ .
إنَّ ما تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية من أزمة المسار والمصير ليست نتيجة لتغيير العالم فقط، ولكنها أيضاً حصيلة لقصور في إدراك قيادتها على مدى ثلاثين عاماً، غير متناسين ما قاله الدبلوماسي الأمريكي المخضرم وليامز بيرنز، الذي تقلّد منصب وكيل وزارة الخارجية الأمريكية في عدة إدارات، بصراحة وقسوة حول هذا الموضوع. وقبل أن يقدِّم اعترافاته في أهم المجلات الأمريكية (اتلانتك) بعنوان (الدبلوماسية الأمريكية تكون أو لا تكون) أكد بيرنز أن واشنطن قد تهربت من لحظة الحساب طويلاً، وقد حانت الآن وعليها أن تتحمَّل ثمن أخطائها وما ارتكبته خلال ثلاثة عقود وأكثر، وتسارع بإصلاحها من خلال وضع استراتيجية جديدة لإدارتها وسياستها الخارجية، والتي اتسمت بدبلوماسية المدفع والنار والهراوة بشرط أن تنظر للعالم كما هو وليس كما تريده هي.
بعد انتشار فايروس كوفيد 19 (كورونا) سيصبح النظام الليبرالي العالمي أقل ليبرالية، وأقل نظاماً، ومن غير الممكن أن يكون عالمياً على ضوء نشوء قوى كبرى دولية وإقليمية دولية لها ثقلها وهي قوى جديدة، وستكون حركة البضائع والأفراد أقل حرِّية من ذي قبل، وستزداد المنافسة بين القوى الكبرى، وبالتالي ستعم الفوضى، خاصة في المناطق الساخنة والتي تشهد صراعات وحروباً دامية. ومع انتشار وتطوّر التكنولوجيا ستحكم النظم السلطوية قبضتها على شعوبها وتمارس ضدها كل أشكال القمع دون رادع. ولن تبقى المنظمات الدولية بنفس فاعليتها، بسبب التناحر بين أعضائها الكبار فضلاً عن نقص الموارد، لكن ماذا عن الولايات المتحدة الأمريكية؟.
عندما كان وليامز بيرنز في عام 1993 رئيساً لهيئة التخطيط في الخارجية، تقدم بمذكرة للرئيس المنتخب بيل كلينتون حذَّر فيها من تراجع الدور الأمريكي في العالم، وأن أمريكا ستندم إذا بقي النظام قائماً خلال الحرب الباردة، ويمكن أن تشعر بالحنين إليه فلن يكون لها دور قيادي متفرد في العالم مستقبلاً، خاصة أنَّ الغرور والعجرفة التي سادت لدى القادة في الولايات المتحدة الأمريكية استولت على مشاعرهم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عبَّروا عن زهوهم وبالغوا في اعتباره انتصاراً ساحقاً لنهاية التاريخ، حتى إن المنظر الأمريكي فرانسيس فوكوياما كتب كتاباً هاماً وخطيراً عن نهاية التاريخ. كل هذا أعمى بصرهم وبصيرتهم عن تشكّل عالم جديد ينمو ببطء ودون ضجيج، وهم وحدهم الذين أسرفوا باستخدام فائض للقوة، ودبلوماسية المدفع والهراوة. من هنا نرى أنَّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبسبب سياسته الهجومية التصادمية قد زاد المشاكل في العالم تأزماً إلا أنه لم يصنعها، وليس هو وحده المسؤول عن المآزق الكبيرة لمستقبل زعامة الولايات المتحدة للعالم.