تحقيقاتسلايد الجريدةصحيفة البعث

“الإكرامية”.. ظاهرة خارج دائرة المساءلة المؤسساتية!!

 

حيل كثيرة وأساليب وفنون جديدة ابتكرها الموظفون هذه الأيام للتغلب على الارتفاعات الأخيرة التي طالت جميع السلع، ليغدو الراتب مجرد سراب يتلاشى مع مرور أول يومين بالشهر، ولعل الطريقة الأسرع والأنجع التي اتبعها معظم الموظفين اليوم هي طلب الإكرامية عند توقيعهم أية معاملة تصل إلى يدهم، فلم يعد طلب هذه الإكرامية بالأمر المُخجل للبعض الذين كانوا يعتبرونها أمراً معيباً ومُحرماً، بل على العكس، ففي ظل هذا الوضع المتردي، وصعوبة تأمين مصدر للعيش ضمن أوقات الدوام الرسمي سوى هذا الراتب الخجول، تجد الإكرامية حاضرة في كافة مؤسسات الدولة لتصبح ظاهرة معيبة لا تنسجم بأي شكل من الأشكال مع أخلاقيات مجتمعنا السوري، فهل شكّلت الأزمة بالفعل أرضية خصبة أدت لاستفحال هذه الظاهرة، أم أن الواقع الصعب اليوم هو من غذّى هذه الظاهرة اللاأخلاقية؟ وما هي الحلول الناجحة لردع المرتشين ومعاقبتهم لعل وعسى نعالج المشكلة قبل أن تستشري في مجتمعنا ويستعصي حلها بشكل نهائي؟

أرقام خيالية
كثيرة هي الأرقام التي نسمعها من المقربين لنا، والتي قاموا بدفعها لإجراء معاملات قانونية لهم، لكن الموظف يدّعي استعصاءها كي يأخذ “الحلوان” الذي لم يعد يقلّ عن عشرة آلاف ليرة لمجرد توقيع شكلي لا يعرّضه لأية مساءلة قانونية، ولعل قيامنا بإجراء معاملة خاصة بنا الأسبوع الفائت هو ما دفعنا للحديث عن هذه الظاهرة، خاصة أن هذه المعاملة القانونية كلفتنا أكثر من 20 ألف ليرة، عدا عن الرسوم الأساسية الموضوعة بقانون هذه المؤسسة، ليطلب أحد الموظفين 2000 ليرة لمجرد قيامه بتنسيق أوراق معاملتنا بالشكل الصحيح، ويكون جوابه جاهزاً عند استفسارنا لهذا الرقم بـ “هيك التسعيرة”، فمن وضع هذه التسعيرة الخاصة بهذا الموظف الذي له نافذة خاصة به لتوضيب الأوراق فقط؟ وأين هي الرقابة المفروض تواجدها في مثل هذه الدائرة الهامة التي يراجعها آلاف المواطنين في اليوم الواحد؟ ففي دراسة قام بها باحثون وخبراء ومنظمات أهلية أظهرت “أن 80% من انتشار الرشوة في ظل الأزمة سببه تمتع البعض بمناصب ومراكز تجعلهم بعيدين عن المحاسبة، وافتقار دور الرقابة إلى كوادر مؤهلة ومدربة، كما أظهرت الدراسة أن 88% من أسباب الرشوة تعود للتفاوت الطبقي والاجتماعي بين الأفراد، بغض النظر عن نوع الرشوة، وأكدت الدراسة أن للرشوة أشكالاً تتطور باستمرار متأثرة ببعض الوشائج الاجتماعية والأخلاقية السائدة، معتبرة أن الوصول إلى النجاح عن طريق الواسطة، وشراء الشهادات الجامعية، والسكوت عن المخالفات، والاهتمام بالمريض المسنود، وشراء اللجان للمواد المطلوبة بمواصفات أقل وبتكلفة أعلى، والتأخير بقضايا الناس سنوات وسنوات، والسكوت عن المخالفات القانونية بأنواعها، وغيرها أغرقت المواطن في تفاصيل لا يجد لنفسه مخرجاً منها.

تدمير للمجتمع
لا يمكن اعتبار الرشوة ظاهرة جديدة على مجتمعنا، لكنها لم تستفحل في السابق كما هي اليوم، بل على العكس أصبحت اليوم أمراً واقعياً مفروضاً على جميع المراجعين بملء جيوبهم بالإكراميات التي سيقدمونها قُرباناً للموظف الفقير الذي لا يكفيه راتبه، متناسين أن مراجعي هذه الدوائر أغلبهم موظفون مغلوب على أمرهم أيضاً، وعلى الرغم من أن القانون السوري اعتبر الرشوة جريمة يعاقب عليها مرتكبها، إلا أننا لم نعد نجد أذناً صاغية، الأمر الذي أكده المحامي علي عمران، حيث ارتفعت أرقام دعاوى الرشاوى خلال السنوات العشر الأخيرة بشكل مخيف، ومع ذلك مازالت هذه الظاهرة تأخذ أبعادها في شتى الدوائر الحكومية، واعتبر عمران الرشوة من أبشع أنواع الجرائم لأنها تدمّر الإنسان أولاً، وصولاً لتدمير مجتمع بأكمله، وقد ميّز المشرع السوري بين قبول الرشوة أو عدمها من الموظف للقيام بعمل من أعمال وظيفته، وهنا يكون الجرم جنحوي الوصف، وتمتد العقوبة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، وبغرامة أقلها ضعفا قيمة ما أخذ أو قبل ، أما إذا التمس الموظف العام أو قبل لنفسه أو لغيره هدية أو أية منفعة أخرى ليعمل عملاً منافياً لوظيفته، أو ليهمل أو يؤخر ما كان عمله واجباً عليه، فالجرم هنا جنائي الوصف، والعقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة، بغرامة لا تنقص عن ثلاثة أمثال قيمة ما أخذ أو قبل، والمشرع السوري عاقب الراشي بالحبس ثلاثة أشهر على الأقل، وبغرامة لا تنقص عن ضعفي قيمة الشيء المعروض أو الموعود.

محرّمة شرعاً
الرشوة محرّمة شرعاً بالقرآن، وفي السنّة النبوية الشريفة ملعون الراشي والمرتشي، وهذا نص شرعي لا يحتمل نقاشاً، وللأسف نجد في أيامنا هذه أن الرشوة بين الناس أصبحت شيئاً اعتيادياً لا يمكن لأحد الوصول إلى مطلبه دون دفع هدية أو مبلغ مادي للشخص الذي سيسدي له الخدمة، حسب ما ذكره الدكتور عبد الرزاق المؤنس “معاون وزير الأوقاف سابقاً”، مستشهداً بقوله تعالى: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحاكم لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون”، إذاً فطلب الرشوة حرام، وقبولها حرام، كما يحرّم عمل الوسيط بين الراشي والمرتشي، وهذا ينطبق في الرشوة التي يتوصل بها صاحبها إلى ما ليس له، أما الرشوة التي يتوصل بها المرء إلى حقه، أو لدفع ظلم عنه لا تعتبر رشوة، كما يرى أكثر العلماء، وإنما هي ابتزاز عند الحاجة، فقد انقسم علماء الدين في تفصيلهم لمفهوم الرشوة إلى اتجاهين: الاتجاه الأول يرى أن الرشوة تتكون من جريمتين مستقلتين: إحداهما يرتكبها الراشي، والأخرى يرتكبها المرتشي، وهذا يعني أن كل جريمة يصح فيها العقاب مستقلة ومنفصلة عن الأخرى، فكل منهما تعتبر جريمة تامة بكل عناصرها وأوصافها وعقوبتها، أما الاتجاه الثاني فيرى أن جريمة الرشوة هي جريمة واحدة، جريمة موظف يتاجر بوظيفته، فالفاعل الأصلي هو الموظف، أو القاضي المرتشي، أما الراشي فهو شريك له يستعير منه إجرامه، وفي كلا الاتجاهين الرشوة محرّمة شرعاً، لكن العقوبة تختلف بينهم.

ميس بركات