في أولوية التفكير الناقد
أحمد علي هلال
لا ريب أن طبيعة النص الإبداعي فضلاً عن قيمته، مازالت تستلزم منظومة من التفكير الذي يثري القراءة، ليس بترجمة النص وفيض شروحاته ربما ذلك في الحيز الإجرائي فحسب، وإنما بالمضايفة عليه بقدر ما يكون النص جاذباً بممكناته، وبنقصه الضروري الذي يتوسل الكمال.
لكن المفارقة المتصلة والمنفصلة بآن معاً، في ما يغلب على الأداء النقدي -بمعنى الاستقبال- مازالت أسيرة الزخم العاطفي، الذي يقود ببساطة شديدة عمليات التحليل والتركيب والتأويل وسوى ذلك، وعلى أهمية العاطفة لكنها ليست وحدها من تحرز قيمة النص، أو تعيد تأويله بنص نقدي مبدع، فضلاً عن أن الأحكام المسبقة وبتأثير العاطفة أيضاً قد تصادر على النص المُبدَع قيمته المنشودة، والتي هي قيمة مشتركة تحرزها ذوائق مختلفة متعددة لتمنح النص تلك القيمة المضافة.
وما يحدث في سجالات الاستقبال والتلقي، يذهب بنا إلى غير مفارقة منهجية في مقامها الأول، إذ إن سوء الفهم سيتصدر في الأغلب الأعم ذلك الاستقبال، ولا تكمن العلة في طبيعة الاستقبال الجاهز والمنجز، بقدر ما تكمن في المواضعات القارة عن ماهية النقد وجدليته، هل هو علم أم فن أم محض ذائقة فقط، وهذا ما يستتبع بدوره أن تكون النتائج صادرة عن تلك المقدمات بالضرورة، والحال أننا إذ ذهبنا إلى استعارة ممكنة في هذا السياق، يمكننا أن نقول ماذا تقرأ لنقول لك من أنت، والأدق ما تقرأ بمعنى ماهية القراءة والتي أصبحت اليوم بحكم السرعة والتسارع خاضعة لسلطة المزاج أكثر منها لسلطة لمعرفة التي ينبغي لها أن تتخطى ذلك إنتاجاً للتفكير الناقد الذي يمس البنى والطرائق والذهنيات من أجل تحرير المعنى فيها، ومن السهل تماماً أن يُقال عن نص ما بحكم الذائقة أنه جميل وحسب، دون أن نعلل لماذا هو جميل، والعكس بالعكس.
وبالمقابل ثمة جهزوية لدى البعض من المبدعين بأن يتهموا الناقد/ القارئ، بعدم امتلاكه للنص وقدرته على فك شيفراته والغوص فيه، وهذا الاتهام لا يحاكيه الجهل المستقر، بقدر ما يحاكيه مرة أخرى سوء الفهم الناجم عن الاستقبال، فهل من حلقة مفقودة هنا، يجيب الواقع بغير حلقة مفقودة على الأرجح أنها ستقوض أسس الحوار المنشود ما بين مثلث العلاقة الذهبي النص، الكاتب، القارئ!.
فهل نحن بحاجة إلى عقد قراءة جديد، يعيد تأصيل البديهيات ويَتخفّف من انزياحات المزاج، وخفة الجهل التي لا تُحتمل، ولا ريب أن هذا العقد هو ما يعضد نظرية القراءة في المدى الإجرائي، ليس نزوعاً إلى توطين مصطلحات وأفكار ورؤى ومفاهيم اُنتزعت من سياقاتها الثقافية الأخرى قسراً، بل انفتاحاً عليها بحيث لا نفقد خصوصيتنا ولا نقصي مشتركنا الإنساني، فالإبداع والنقد كلاهما صورتان لثقافة ما أحوجنا إلى تأصيلها في الوعي أولاً، ومن ثم في الواقع حتى نذهب إلى ثقافة الاختلاف الضرورية، فالتشابه قتل، وإنما الأشياء بممكناتها، فإن اختلفت معك لا يعني أنني أخالفك الرأي، وإنما هو بحث وهجس نبيل عما يمنح نَصّكَ أمداء واسعة في ضوء قيم النص المتحولة والمتعددة، وبمعنى آخر لابد من تقاليد جديدة تحيي ما يمكن تسميته بطقس التلقي وإحياء أثر القارئ الذي يعني دورة جديدة لحياة النص، ولعلها تعني في المقابل أن تكون الأفعال النقدية أفعالاً معرفية بامتياز، أي أنها لا تستهدف الشخص، بل النص بوصفه قصداً –أي قصد النص- بقوامه وقيمته وبنيته أكثر من شخصية من كتبه، إذاً هي ثقافة الإصغاء التي نحتاجها كي نوّلد من سوء الفهم، فهماً ضرورياً بظاهرة نبيلة هي الإبداع الذي يليق بنا تعزيزاً لحضارة الروح والكلمة.