الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بعيداً عن الممالأة

عبد الكريم النّاعم

قال له صديقه: “أنا مرتاح لقرار فكّ حجز كورونا”.

أجابه: “أمّا أنا فقد أكون أقلّ منك انشراحاً لأنّني على أيّة حالة لم أعد قادرا على الخروج للتنزّه إلاّ في حدود الشارع القصير الذي يقع فيه بيتي، أذهب رواحا وعودة، بما يستغرق سبع دقائق لا أكثر، إنّها سنوات العمر، والأمراض العديدة، والعمليات الجراحيّة التي رافقتْها، وكميّات الدواء التي تراكمت في جسمي منذ أربعين عاماً، ومع ذلك فأنا أعرف كيف أتمتّع بما بقي لي من صحّة، راجيا الله سبحانه وتعالى أن لا يسلبني شيئاً ممّا بقي، وإلاّ دخلنا في أرذل العمر”.

فاجأه بتغيير في منحى الكلام، قال له، بشيء من الحَرَج الخفيّ: “لا أكتمك أنّني أحياناّ ألتقي ببعض الأصدقاء، أو يزورني أحدهم من خلال حواره على الهاتف، وقد لمّح أحدهم، وغالبا ما يمرّ ذكرك، فهم يعرفون مدى ارتباطنا، وبعضهم قال ما قال تلميحا، وبعضهم قالها صريحة”.

قاطعه: “أوصلني إلى النتيجة، فأنت تعرف أنّني لا أحتمل مثل هذا التطويل”.

قال: “ثمّة مَن يرى أنّك تميل لممالأة السلطة”.

ابتسم وقال له: “ظننتك ستأتيني بما لا أعرفه، أنا أعرف نوعيّة هؤلاء الذين يتهمونني، وأستطيع تقدير انتماءاتهم السياسيّة والفكريّة، ودوافع بعضهم العميقة التي يجبنون عن التصريح بها، ولذا فهم يغطّونها بمزيد من الغمز هنا، واللّمز هناك.

صديقي قبل أن تندلع حرائق الخراب العربي بأيدي عملاء الصهيو أمريكيّين، وبائعي الضمائر بثمن بخس، كتبتُ الكثير عن مواقع الخلل، وهذا تحمله آثاري الكتابيّة، بأشكالها، ولم أدافع ذات مرّة عن الخطأ، ولا عمَن يتسبّب به أو يسانده، أو يشاركه، وتلك هي فسحتي الوحيدة.

حين أُوقِدت نيران الحريق العربي وقفتُ منذ اللحظة الأولى ضدّ هذا الحريق، مُدركاً منذ البداية أنّ الشعارات التي رُفِعت هي شعارات للتضليل، وهي مصيدة لاكتساب مواقف مَن ينطلي عليهم الخداع، وقد عشت شهوراً، كغيري، من الخوف والقلق، ونمت الليالي على أصوات القنابل والرصاص، ولكنّني لم أُخدَع بتلك اليافطات، ولا صمتّ خيفة من نتائج موقفي، لأنّني كنت واثقا من أنّني أدافع عن وحدة هذا التراب، وعن ماضي البلاد، وعن مستقبلها، لأنّها لو سقطتْ في ظلمة ذلك البئر فلن تستطيع النهوض إلاّ بمكابدات لا يعلم مدى سنواتها غير الله.

أنا أستطيع أن أقدّر ماذا يُقال من قِبَل هذه الجماعات، ومن قِبَل من هم في خاناتهم، وللتوضيح أقول، أنا متقاعد منذ عام 1996، وقد بلغتُ من الكبر عتيّاً، وليست لديّ دوافع للممالأة، والسلبيّات التي شكا منها الناس وما زالوا، لا تجمّلها أيّة ممالأة لامنّي ولا من غيري، إذ لا يمكن أن يوصَف السواد بالبياض، وحين انحزتُ لـ “السلطة” – كما يسمّونها – كان انحيازي للحفاظ على وحدة هذا البلد من التفكّك، وكان انحيازاً لموقفها من القضيّة الفلسطينيّة، ولمحور المقاومة، ومجابهة للرغبات الأمريكيّة التي يُقرّ الجميع أنّها رغبات صهيونيّة بامتياز، ورفضا للفكر الديني التدميري الداعشي، بامتداداته، وبجذوره، وبتوجّهاته الفئويّة المذهبيّة التي يمثّلها قطبان في منطقتنا العربيّة، حكم أردوغان في تركيّا، والعرش السعودي، بما لهما من لواحق.. كنتُ، وما زلتُ أشعر، وسأظلّ أشعر أنّني أدافع عن الوضيء في تاريخ هذه الأمّة لا العاتم، وعن المشرّف في تاريخها الحديث لاعن خالي الشرف، وعن المستقبل الذي يضمن كرامتنا، ووحدة بلادنا، وتقدّمها، وازدهارها، وهذا لا يتحقّق إلاّ باستئصال النباتات السّامّة، والمتسلّقة، أيّاً كان اللّبوس الذي تلبسه، ولم أقف في يوم مدافعاً عن الخلل، بل كنتُ مع الذين أشاروا إليه مثل كثيرين من الوطنيّين في هذا البلد، أقول هذا وأنا موقن بأنّ إنسان هذه الأرض يستطيع الانتصار رغم وحشيّة الحصار، ففي هذا البلد ما يؤهّله لمزيد من الصمود، حين نُحسن الأداء، وحين تصفو الضمائر، ويستقيم السلوك، فهل تجد في هذا ممالأة؟!

يا صديقي هؤلاء شعارهم “إنْ لم تكنْ مثلي قتلتُك”، ولن يرضوا بأقلّ من ذلك.

aaalnaem@gmail.com