نساء من سورية.. تامار شاهينيان!
حتى الحرب، دمارها، خراب الأرواح الذي تتركه، النزيف الدامي لأوجاعها، يومياتها التي لا تستكين إبر عقاربها ولا تهدأ، لم تنل لا في ماضي الأيام ولا في حاضرها، كما لن تفعل في مستقبلها، من حالة الفرادة والأصالة وصلابة السيدة السورية، وعلى مختلف المستويات، سواء في حفاظها على أسرتها صانعة من العدم أحلاماً، أو في كونها نبعاً هادراً في أثمن أنواع العطاء في الوجود، أو في حضورها الفاعل في مختلف مفاصل الحياة اليومية، ومنها في الحالة الفنية.
الفنانة تامار شاهينيان واحدة من هذه السلسلة الإنسانية الفريدة التي لن تنقطع يوماً منذ أكثر من 7000 سنة، وإن خفت وهج حضورها في بعض الأزمنة، فهي حفيدة من حفيدات ربّة الينبوع، زنوبيا، والقديسة أم الشهداء الستة، وغيرهن من السوريات اللواتي أذهلن العالم ومازلن يفعلن حتى اللحظة.
أدخلها “القدر” كما تؤمن إلى عالم التطريز الالكتروني منذ عام 1992، وفي هذا العالم الرحب والمتنوع حد الذهول، وجدت “تامار” متعة البحث عن التصاميم والرسم ومزج الألوان، إضافة إلى البحث الدائم عن تقنيات لتطوير آلية العمل، وتنفيذ الأجمل والأحدث.
تتعامل تامار مع الآلة بتنوعها، والتي تعمل بتقنيات عالية جداً، بالكثير من الجدية في عملها الإبداعي، بل إنها تقنيتها الفعلية في نتاجها الفني، فهي تعتبر أن الآلة هي نتاج الفكر والتطور البشري المستمر، وعن هذا تقول: “قناعتي بأنه مهما أغرقتنا التكنولوجيا في حديثها، يبقى الإنسان ودوره في توظيف أدوات العصر لخدمته ولكل ما هو جميل، خيار شخصي لا يُسلب منه إلا باستسلامه وسوء استخدامه لهذه التقنيات”.
هاجس تنفيذ أعمال فنية بتقنيات العصر، رافقها طوال سنين، إلى أن جمعها القدر بالفنان الباحث انطون مزاوي الذي كان ماضياً في بحثه الدؤوب والمليء بالشغف عن الرموز البصرية في أبواب الدور الدمشقية، تقول تامار: “ما قام به الفنان مزاوي، شدني جداً، خصوصاً بالمهارة والبصيرة النافذة التي تجلت بالصور التي التقطها، والتي كانت خاصة في بحثه الفريد فعلاً، طرحت عليه حينها فكرتي التي اشتغلت عليها سنين طوالاً، وهي الفوتوغراف المطرز، مع الاشتغال سوية على معرض مشترك يجمع أعمالنا، وكان الأمر، كان صاحب بصيرة ملهمة، وجاءت هذه التجربة لتكون هي الأولى في سورية”.
لاقى المعرض حينها صدى لافتاً، وكان لهذا التمازج بين فكرتين فنيتين أن ارتقى بهما سوية، لجهة توسيع مساحة تقديم الفكرة البحثية المصورة التي قام بها الفنان مزاوي لشرائح أوسع من جمهور الفن والجمهور المهتم بالبحث الذي يشتغل عليه، وكان العمل عليها أيضاً من الناحية الشكلية الفنية الجديدة التي قامت به تامار، منسجماً وخلاقاً في آن مع المشروع.
في البدء تصورت تامار أن الصعوبات ستكون في إيجاد آلية العمل وتقنيات التطريز على المادة المطبوعة، لكنها بعد تجاوز تلك المرحلة وجدت نفسها أمام تحد أكبر، وهو اختيار التصاميم الأنسب والأجمل والأكثر تناغماً وانسجاماً مع موضوع الصور الأساسي، عن هذا تقول: “حرصت بكل طاقتي وبذهن صاف ومتأمل أن أقدم التصاميم الألطف حضوراً، والأكثر قدرة في ملامسة الحالة التي تكمن خلف صور “طراقات” الأبواب، بعد اختيار التصاميم جاءت مرحلة التلوين، وهنا تتابع الفنانة السورية: “كان لابد للإضافات التطريزية أن تحاكي الواقع وتتناغم مع ألوان الفوتوغراف، وفي الوقت نفسه أن تحقق التوازن بين الوضوح والهدوء لعين المتلقي”.
سنتان اشتغلت فيهما تامار بشكل حثيث على فكرتها التي كانت خيالية ذات يوم، لكن إيمانها بها، ومتابعتها المجدية لكل تقدم تقني يجعلانها قابلة للتحقيق بحالتها الفنية، أيضاً الانتظار والبحث الدقيق عن الفرصة المناسبة التي يمكن من خلالها تقديم عملها، أثمرا كما دأبت وتمنت، وعن تلك المرحلة تقول: “خلال عملي على المشروع لمدة عامين، استمتعت بالبحث والعمل وكأني فتحت نافذة جديدة، وأصبحت أستنشق هواء ينعش فكري وروحي، وفتح آفاقاً جديدة في حياتي”.
تجد تامار أن لا متعة من متع الحياة تسكنها بكيانها الروحي والمادي مثل متعة تطوير ذاتها، والغرف من معين المعرفة وطرق الأبواب الجديدة.
الفكرة الفنية الجديدة تقنياً من جهة كونها مهنة تقليدية “التطريز” اشتغلت تامار على نقلها إلى مستوى آخر تماماً، وذلك من خلال توظيف التقنية الحديثة في خدمة أحد أعرق أنواع الفنون اليدوية الشاقة، لكن التحديث في أعمال تامار لم يبق ملتزماً بالآلة، فهي تفعل ما يتم نسجه وتصميمه وحبك تفاصيله الدقيقة من مخيلتها الفنية والمعرفية أيضاً، وهي جرأة تُحسب لها وخطوة جديدة في اتجاه فني تقليدي، أقدمت عليها تامار التي كانت مستعدة عندما قال لها “القدر”: “خَطيّ العتبة”.
تمّام علي بركات