سر تربية طائر الرخ..
تقول الأسطورة إن السماء لن تقع مادام أطلس يفرد ذراعيه للنجوم يحمل أعباء السماء وهموم أجرامها، وراوي الحكايات السورية الأول يقول لي إن هذه الأرض لن تسقط مادامت تحمل كل هذا الألق المخبوء في عيون أطفالها.. من أين أتى هذا اليقين؟ من حكاية قديمة قدم الرقم الطيني الأول الذي شكّله أهل إيبلا ونفخوا فيه من عرق الجباه كلمات للتأريخ.. حفروا عليه: كانت هذه الأرض في يومها الأول تمتلك ينبوعاً واحداً للحب والعطاء، يشرب منه المزارعون الأوائل ليل نهار، ليرووا عطشهم بعد تعب النهار الطويل في لملمة أشعة الشمس كسنابل، وبعد تعب الليل الطويل وهم يحصدون بمناجلهم أشعة القمر الفضية، ومن أكداس أشعة الشمس والقمر في بيت المونة الأول تكونت أرغفة من خبز سحري، راحوا يقسمونه بين أطفالهم ويطعموهم إياها لقمة لقمة ويسقونهم من ماء ذاك الينبوع ويعلمونهم كلمات شكر للإله وللأرض الحبيبة، ويقولون لهم: كلما قلتم صباح مساء (أنا أحبك يا سورية) سترد عليكم هذا الحب أعطيات من جمال، وهي خير من يرد التحية بأحسن منها، فتكون منها أنزيم خاص مشرق وبهي في الحمض النووي الخاص بنا، رسخ فيه الحب لسورية مع جيناتنا.. تعشّق في خلايانا، وأورق في حنايا الروح وبين الضلوع، لم نكن نفهم يوماً لماذا نحمل كل هذا الحب وننثره كالياسمين على قارعة المدن وفي البراري الموغلة بالخيرات والإقحوان.
كيف نصنع الحب في ثقافة أطفالنا وكيف نروج له؟ كيف نكتب قصصاً تعيد ألق هذا العطاء الأول؟ ونعلمهم أنهم كانوا في مخيلة الأسطورة السورية الأولى على شكل فراخ صغيرة شقت طريقها للوجود من بيضة الخلود التي أبى طائر الرخ أن يكون له موطن آخر عدا أسطح بيوت المزارع السوري الأول ليضع بيوضه فوقها، كنا نربي طيور الرخ كما يربي بقية العالم طيوره الداجنة، نرعى فراخه ونمشط ريشه ونطبب حروقه ونفرش له أعواد البخور كل عام ليعيد صيرورة خلقه من جديد. واليوم وفي وسط هذه الظروف التي تبدو للعالم أجمع أنها جمر ورماد وأوار وضياع وسط التيه الكبير، يكفي أن تنظر في أحداق عيون أطفالنا لتعرف أنك مازلت تملك تلك الروح، أنك مازلت ابناً لتلك الجينات التي خلدت وصمدت في وجه أعتى الملمات.
ما الذي ننتظره لنصنع ثقافة الحب لأطفالنا؟ ونكتبها من جديد على قشور بيوض طائر الرخ النبيل، بينما تحلق أفراخه في طيرانها الأول، وهي تحمل أطفالنا بأحلامهم وطموحاتهم نحو مستقبل يليق، ولماذا ننتظر الفرص ولا نخلقها؟ لماذا نعتب على الظروف ولا نحاول تجاوزها؟.
الجواب سمعته من معظم من يكتب ويرسم للأطفال في سورية: لأن هناك من يهمش فن وأدب الطفل من المعنيين بالشأن الثقافي.. هناك من يعتبر أن فن الطفل أمر كمالي لا جوهري وثانوي جداً لا يرقى لمستوى النقاش على مستوى قيادات عليا في الشأن الثقافي والأدبي للطفل، والأدلة أكثر من أن نحصيها في هذه العجالة.. فمثلاً:
أين ورش العمل الدائمة لفناني اللوحة الطفلية في سورية؟ أين المعارض الدائمة للوحة فن الطفل؟ أين الندوات والمحاضرات عن أدب الطفل وأهميته في رسم ملامح مستقبل الوطن؟ لماذا تكون أجور ومكافآت العاملين في حقليّ أدب وفن الطفل دائماً الأدنى والأقل قياساً بكل البلدان الأخرى؟ لماذا تهاجر أقلام وريش الأدباء والفنانين السوريين الشباب للخارج لتعمل وتبدع وتصنع ثقافة للغير؟.
نعم.. أنا أعي تماماً أن هذه الأسئلة تكررت مرات عدة وتكررت من ورائها العبرات والآهات، أما آن أوان إيجاد الحلول بالسرعة القصوى، ووضع نقاط الحروف على الحروف؟ لعمري آن الأوان.
كل من يعمل لثقافة الطفل السوري مدعو اليوم قبل الغد أن يمسك ما يستطيع من طقوس إبداعه ويبدأ بكتابة أولى مقومات ثقافة الحب في صفحات قصصه ورواياته ولوحاته، ويقول بينه وبين نفسه: أنا أحبك يا سورية.
من هذا المنبر العالي ومن كل منابرنا الثقافية التي نحب هذه دعوة متجددة ملتزمة بحق التنفيذ والرغبة الصادقة في التعاون والتكاتف مع كل من يقدر على العطاء في درب الطفولة.. أن تعال لنرسم حلماً جميلاً لأطفالنا، ولنعبر لهم عن حبنا الكبير.
نذرنا أنفسنا لكثير من الأحبة ولكثير من المواقف ولكثير من الأهداف وآن الأوان لنصهر كل هذا في محبوبة وحيدة جليلة نبيلة، ونصنع لأطفالها قلعة من حكاية بيوض طائر الرخ النبيل.
ها أنذا الآن بعد أن فرغت من كتابتي لكم أتلقى أولى الرسائل من طفلة صغيرة تمتلك عيون سورية الأم ذاتها وشعرها الأسود الجميل المجدول، وقد كتبت فيها: أنا أحبك يا سورية.
رامز حاج حسين