الشعر والتنوير (2/2)
محمد راتب الحلاق
إن المعاني الممكنة جميعاً لكلمة “التنوير” مستبطنة في أعماق تجربة الشاعر، وتقيم في النص بين السطور، وتكتشف، مع ما يكتشف من المكبوت واللامكتوب عبر عملية التمعن والقراءة المركبة والذكية، لأنها إن طفت على سطح القول الشعري بصورة فجة حولته إلى شيء آخر غير الشعر، فالشعر لا ينقل فكراً يخدم جهة محددة، ولا يروج للأيديولوجيات والعقائد، فإن فعل شيئاً من ذلك أخرج نفسه من دائرة الشعر، وإن تزيا بزيه وتنكر بعباءته، كما في نصوص الوراقين والنظامين. فللشعر هويته، ولغته الخاصة، ولاسيما محاولاته المستمرة لتحطيم الحواجز بين الواقع والخيال، مع ملاحظة هامة لا يمكن التنازل عنها تقول: إن الشعر محكوم بشرط الجمال وليس بأية وظيفة أخرى، سواء أكانت اجتماعية أم سياسية أم اقتصادية.
وللقارئ أن يتذكر، بهذه المناسبة، كم ضاع من القصائد التي كانت تملأ الدنيا ضجيجاً، لأنها لم تكن منسجمة مع روح الشعر ولا مع طبيعته. وكيف ضاع معها شعراء المناسبات جميعاً، لأن تحميل الشعر بحمولات أيديولوجية أو فكرية قد أفسدته وأساءت لما أراد أن يمدحه.
نعم، لا بد للشاعر من أن يعيش الواقع، وأن يمتلك ثقافة العصر، لكن الذي أقوله شيء آخر، يتمثل باستبطان تلك الثقافة والاستفادة القصوى منها، شرط التعبير عن الأمور تعبيراً شعرياً، بعيداً عن التجند بصفوف أيديولوجية بعينها.
الشعر يتناول شتى مناحي الحياة، بما في ذلك القضايا الفكرية والفلسفية والسياسية، لكنه يعبر عنها بطرائق الشعر؛ فالشاعر يتوق إلى إنتاج معادل للعالم المعطى، يكون أكثر جمالاً وعدلاً، والشعر لا يعبر عن العالم الموجود وإنما عن العالم الممكن، مع ملاحظة أن المعرفة في الشعر ذات طبيعة حدسية داخلية (لدنية) مباشرة، أشبه ما تكون بالكشف والإشراق، والشاعر الذي يخلص للشعر، يستبطن الماضي، ويعي الحاضر، ويستبصر المستقبل، دون أن يعاني من أزمة الولاءات، التي تتسع أو تنحسر حسب المواسم، لأن الشعر أكبر من ذلك، فهو ينتمي للإنسان وكرامة الإنسان. وكم ضاع شعر، وكم تاه شعراء في زواريب تلك الولاءات القاتلة والمدمرة، بعد أن حدثت عملية نكوص خطيرة إلى مراحل تاريخية كنا نظن أنها قد مضت وطويت، ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة إلا بالوحدة، وبالبحت عن المشتركات، وهي الأغلب الأعم، وليس كما يفعل السفهاء من مدعي الشعر، حين يصبون الزيت على نار الفتنة العمياء، والسؤال الذي يطرح نفسه في مقالة تدور حول الشعر والتنوير، يقول: كيف للشاعر أن يتوازن في ظل هذا الاستقطاب القاتل؟! لأنه إن قال الحقيقة انفض من حوله جمهور بيئته، المستنفر والمضلل، نتيجة تجييش المستفيدين، وبذلك يخسر الشهرة التي يشتهيها كل شاعر، فهل يضعف ويجاري الجمهور؟ أم يخلص لطبيعة الشعر ومقتضياته الجمالية والتقنية والفنية؟!.
وزاد من مشكلة التواصل مع الجمهور إيغال بعض الشعراء بالرمزية والانزياحات التعسفية، متعمدين بذلك الغموض؛ وإنني أعذرهم أحياناً، لأنهم يخشون أن يتم البطش بهم إن قالوا ما يؤمنون به بصورة جلية. الشعراء ليسوا من نتاج الظروف والبيئات فحسب، وإنما من إنتاج أنفسهم وصدقهم مع أنفسهم وذواتهم بالدرجة الأولى.
يقول د. وفيق سليطين: “إن فاعلية الشعر التنويري تتأتى فقط من خلال طبيعته الجمالية التي يتقوَم بها، وليس من اصطناعه وسيطاً لنقل الفكر، أو خادماً للنظر، أو محكوماً بشرط الاستجابة لقواعد العقل، أو لضرورات إشاعة الوعي التنويري….”. التنوير الحقيقي يبدأ، إذاً، من الذات، أعني من ذات الشاعر.