دراساتصحيفة البعث

أردوغان.. النزعة الاستعمارية التوسعية

د.معن منيف سليمان

ينتهج نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سياسات استعمارية توسعية في كل من سورية والعراق وليبيا، تستهدف تمزيق هذه الدول من خلال التحالف مع التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها “داعش” وجبهة النصرة”، لتحقيق مخططاته التوسعية في المنطقة. وتقف وراء نزعته الاستعمارية التوسعية أطماع اقتصادية وأوهام إستراتيجية ودوافع أيدلوجية غالباً ما تتدثر بذريعة مكافحة الإرهاب أو دعم شرعية زائفة. وما يمارسه أردوغان من عدوان لا يهدّد سورية أو ليبيا أو العراق فقط، بل يهدّد الأمن القومي العربي كلّه، فهو ينفّذ الأجندات الغربية الاستعمارية، وهو العدو الجديد بعد “إسرائيل” لتدمير المنطقة وإشعال الحروب والفتن.

يحاول أردوغان زراعة كيان عسكري تركي أو ميلشيات مسلّحة متطرّفة في جميع بلدان الوطن العربي، وذلك من أجل رسم خطة طويلة الأمد  للسيطرة على ثروات الوطن العربي وخاصة النفط والغاز. وفي سبيل تحقيق ذلك يسعى للقيام بعدّة تحالفات واتفاقيات مشبوهة تمكنه من بسط نفوذه في الوطن العربي كما فعل أجداده. فعقد اتفاقية مشبوهة مع النظام “الإخواني” السوداني السابق تمكن من خلالها زرع قوّات مسلّحة تركية في قلب السودان بجزيرة سواكن، وذلك لإحكام السيطرة على البحر الأحمر وثرواته والتجارة، وفي الصومال أنشأ أكبر قاعدة عسكرية هناك، وفي السياق نفسه قام بالتدخل العسكري المباشر في سورية والعراق، التي نشر فيها قوات خاصة في بلدة “حفتنين” شمالي العراق، كما أقام عدداً من القواعد العسكرية في دول مختلفة، منها: مشيخة قطر، وشمالي قبرص، وسورية.

واستعان أردوغان بـ “داعش” و”القاعدة” والميلشيات الإرهابية المسلحة الأخرى، فـ “داعش” ليس سوى تنظيم إرهابي من مجموعة التنظيمات الإرهابية التي رعتها تركيا الأردوغانية عبر سنوات الحرب على سورية. وأثبتت الأخبار كل يوم أن التنظيم التكفيري الإرهابي ما هو إلا مليشيات مسلّحة مرتزقة مدعومة من أردوغان وعدّة جهات أخرى من أجل بث الرعب والحروب والفتن في الوطن العربي وتخريب المدن وزعزعة الأمن القومي للبلدان العربية وإفشال الحكومات الوطنية. وهنا يظهر أردوغان كعدو مستنسخ عن “إسرائيل” بيد الدول الاستعمارية لضرب المنطقة العربية والسيطرة عليها.

هذا ولم يكن تنظيم “داعش” الإرهابي وحده يحظى بدعم أردوغان فقط، وإنما امتد الأمر لتصبح جميع التنظيمات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة مدعومة مباشرة منه، فأولاً وقبل كل تلك التنظيمات يأتي في المرتبة الأولى تنظيم “الإخوان المسلمين” الذي دعمه واحتضنه أردوغان بكل ما أوتي من قوة بالمال والسلاح والدعم اللوجستي والسياسي في كل البلدان العربية التي سقطت تحت سيطرتهم منذ بداية ما يسمّى “الربيع العربي”، وذلك بالرغم من تصنيف تنظيم “الإخوان” كجماعة إرهابية ملاحقة في مصر وعدّة دول عربية أخرى.

انتهج أردوغان سياسات النفوذ والتوسع الإقليمي من خلال التدخل المستمر في شؤون دول المنطقة العربية، حيث لا تخلو خطاباته السياسية من طرح رؤى حول السياسات الداخلية لدول الجوار تُعد بمثابة انتهاك للسيادة، فضلاً عن المفردات شديدة العدائية التي يتبناها ضدّ من يعدّهم خصوماً إقليميين لنفوذ وتوسع تركيا. ولا يقتصر التوسع الإقليمي على الخطابات الحماسية، إذ قام أردوغان بدعم التيارات المتطرّفة في عددٍ كبيرٍ من دول المنطقة، ووفّر لهم المأوى والاستضافة والدعم المالي والمنصّات الإعلامية التي تروّج لأفكارهم، ولا ينفصل ذلك عن دور تركيا في دعم التنظيمات الإرهابية في سورية من خلال السماح بتسلّل المقاتلين والتمويل والأسلحة عبر الحدود.

وعرض أردوغان على السوريين الراغبين في الانخراط في الحرب الليبية الجنسية التركية إضافة إلى رواتب شهرية تصل إلى 2000 دولار. ذلك يعني أن تركيا قامت بتأسيس ميليشيا إرهابية على غرار تلك الميليشيات التي قامت بالزج بها في الحرب السورية، لكنها تقوم بذلك هذه المرّة علناً، ومن غير أن تحتاج إلى أي غطاء إقليمي أو دولي.

يرى أردوغان أن إرث العثمانيين يعطي الدولة التركية حقّاً تاريخيّاً في السيطرة الإقليمية وتمثيل العالم الإسلامي كسلطان عثماني أو كخليفة في مواجهة الغرب، وهو يرى أيضاً أن تدخله في شؤون الدول العربية ونشره قوات عسكرية في سورية والعراق ودعمه للتنظيمات الدينية المتطرّفة في الدول العربية ضمن تجليات “السياسة الإمبراطورية” التي تدعم رؤيته للدور التركي في الشرق الأوسط التي يمكن عدّها مرادفاً للاستعمار بالمفهوم التقليدي. لقد عاد أردوغان ليروّج لمشروعه التوسعي الاستعماري الذي يسعى لتحقيقه في الأراضي العربية، وذلك بإشارته إلى حدود الدولة العثمانية في غابر الزمن، ورغبته في استعادة حدود تلك الدولة التي انهارت وتفككت عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وزعم أن حدود دولته تفوق تلك الحدود الموجودة حالياً، حيث تمتدّ إلى مصراته الليبية، وحلب وحمص والحسكة في سورية، وجزر القرم، وقال: “إذا كانت هذه المدن خارج حدودنا الفعلية، إلا أنها داخل حدودنا العاطفية والقلبية والجسدية”. وأشار إلى أنه سيتصدّى لمن يحاول تحديد التاريخ التركي بالـ 90 عاماً فقط، في إشارة إلى رغبته الواضحة في عودة الغزو العثماني للمنطقة، كاشفاً عن قيامه بتعديل جميع المناهج الدراسية من المرحلة الابتدائية، لتعديل هذه الحدود الخاطئة.

إنّ ثمّة عقلية استعمارية تتحكّم في آلية عمل أردوغان، فهو يستخدم في معظم خطبه السياسية مصطلح “نحن أحفاد العثمانيين” للتأكيد على توجهاته ومحاولاته إحياء إرث الدولة العثمانية عن طريق التمدّد السياسي والجغرافي، وهذا الأمر يتجلّى بوضوح في ليبيا وسورية، على حدّ سواء، بما في ذلك الشرق الأوسط الذي يتصوّره أردوغان أحد الأقاليم التابعة لتركيا بحكم التبعية التاريخية للدولة العثمانية.

أردوغان يريد إشغال المنطقة بعمليات عسكرية لا نهاية لها تحقيقاً لحلم قديم عفا عليه الزمن، وأصبح من المنسيات، كونه عمّق الخلافات الإسلامية، وأساء إلى الحضارة العربية المشرقة، وخلق نزاعات لا تزال إلى يومنا الحاضر، والسجل التاريخي للاحتلال العثماني تشهد له على الأعمال الإجرامية التي استهدفت المفكرين العرب والمنطقة برمتها.

ولقد انكشف الدور التركي المفاجئ بعد علاقات دافئة مع بعض الدول العربية انقلبت عليها أنقرة، التي عدّت نفسها المحور الأساس في إدارة دفّة الصراعات والتحكم بدول الجوار، من الشمال السوري إلى ليبيا والقرن الأفريقي، وفرض ما يروق لها من سياسات تتمحور حول حلمها العثماني، وهذا الحلم بدأ يراود أذهان المسؤولين الأتراك وأفردت له دراسات واسعة تتحدّث عن وجود نيات مبيتة لتقديم النموذج التركي “الإخواني” كنموذج للإسلام السياسي بدلاً من نموذج “القاعدة”، في إشارة واضحة للتحوّل إلى حقبة جديدة تكون فيها تركيا الوكيل الحصري للنموذج الإسلامي السياسي بالتنسيق مع مشيخة قطر الداعم للمجموعات الإرهابية المسلّحة المنتشرة على أراضي بعض الدول العربية.

لا يمكن اختصار المساعي التركية في تنفيذ الحلم التوسعي لأردوغان، على ما يمكن تسميته بـ”القوة الخشنة” المتمثلة في التدخل العسكري في ليبيا وسورية والعراق ومناطق أخرى، فثمّة خطّ موازٍ تعمل فيه تركيا منذ قرابة الثلاثين عاماً، ويعرف بـ”القوة الناعمة”. وإن كانت هذه القوة تتنوع بين الدبلوماسية الشعبية وتصدير الدراما والثقافة التركية، ما يخلق حالة إعجاب بالأتراك، فيأتي ملف التعليم في تركيا ليكمل هذا الإعجاب.

وتستهدف تركيا من إعمال قوتها الناعمة خلق قاعدة مؤيدين لها في دول إقليمية، لتمرير سياستها الخشنة التوسعية، وهو ما يُلمس اليوم فيما يعرف بـ”ظاهرة العرب الأتراك”، أو العرب الموالين لتركيا حتى ولو على مصالح دولهم.

ولقد كشف أردوغان عن غرضه الحقيقي من الاهتمام بالمنطقة العربية، حيث تقدّمت شركة بترول تركية بطلب إلى ليبيا للتنقيب في شرق البحر المتوسط، ليصبح المطمع الاستعماري له واضحاً جلياً لا يحتاج إلى أيّ شرح. ولأردوغان ونظامه سوابق في عالم سرقة ثروات الجيران، خاصة في سورية، من خلال نهب الأتراك النفط السوري مرتدين في ذلك أقنعة التاجر والوسيط السياسي ورجل العصابات. وقد فضحت وزارة النفط والثروة المعدنية السورية، مطامع الأتراك قائلة أن أنقرة تمارس “سرقة موصوفة” لنفطها.

والتكتيك التركي في ليبيا وسورية، هو نسخة شديدة التشابه مع النموذج الأردوغاني للسطو على نفط العراق. فقد كشفت تقارير إعلامية وشكاوى برلمانية عديدة في العراق، عن عمليات نهب منظمة تمارسها تركيا للسطو على النفط العراقي في أثناء مروره بأنابيب النقل في الأراضي التركية.

وأكثر ما يثير جنون أردوغان هو إفلات أي مصدر للطاقة من قبضته، ولهذا يسعى إلى تحجيم نفوذ القاهرة في البحر المتوسط والشرق الأوسط، من خلال العمل على الحد من احتكارها تصدير الطاقة بالمنطقة عبر زعزعة الأمن على حدودها الغربية.

إن السياسات العدائية التوسعية التي يتبناها أردوغان قد تتصاعد نتيجة سيطرة “التعصب العثماني” على عقيدته الاستعمارية ورؤيته للعالم، وهو ما يدفعه لمحاولة السيطرة على المنطقة العربية، والسعي لإعادة إحياء “الإمبراطورية العثمانية”، والتدخل العنيف في الشؤون الداخلية لدول الجوار، وإحكام الاستبداد السياسي داخليّاً، ودعم التيارات الدينية المتطرفة على امتداد المنطقة. لكن يبدو أن هذا الحلم أصبح صعب المنال له بسبب جهود الحرب التي أصبحت تكلّف أموالاً باهظة للاقتصاد التركي الذي يعاني من الركود جرّاء أزمة فيروس كورونا وأزمات أخرى، فضلاً عن أن الدول العربية هي دول ذات سيادة وتمتلك قدرة الدفاع عن نفسها في مواجهة أوهام الحالمين بإعادة استعمارها.