الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الإنسان العظيم!

حسن حميد

الآن، وفي أيام شكوى الناس الجهيرة من هذا الوباء “كورونا”، أستعيد قراءة رائعة الأدب الإيطالي “الديكاميرون” لثالث عمالقة الأدب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (1313 – 1375) الذي جاء بعد دانتي (1265 – 1321)، وبعد بترارك (1304 ـ 1374)، ومثلما ارتفع اسم دانتي بكتابه “الكوميديا الإلهية”، وحلّق بعيداً في فضاء من فلسفة، وإبداع، وجمال، واسم بترارك الذي ارتفع بـ “السوناتات” وحلق بعيداً في كتابه، ارتفع اسم بوكاشيو من خلال كتابه “الديكاميرون” وحلّق بجمالية جديدة، وفلسفة مدهشة، وإبداع فذ، فكان السرد الأدبي الإيطالي الذي عنى إيطاليا كلها، والعالم كله أيضاً، حين اجتاح الطاعون العالم، ومنه إيطاليا، فغمر الخوف الناس عقولاً، ونفوساً، وأرواحاً، لأنه كان الداء الذي لا دواء له، وقد احتار الناس ماذا يفعلون وهم يرون أحبابهم يغادرون الدنيا واحداً واحداً مثل طيور أفزعها خوف عظيم!

بداية، أقول: ينتسب جيوفاني بوكاشيو إلى القرن الرابع عشر، وهو عصر يوصف بأنه النهاية الحقيقية للقرون الوسطى في أوروبا، أي قرون الظلمة والوحشة والمظالم ومحاكم التفتيش، وهو أيضاً القرن الذي عرف “حرب المئة سنة” بين بريطانيا وفرنسا، والقرن الذي تفشى فيه الطاعون الذي أودى بثلث سكان أوروبا، وعصر إعادة النظر في “المدون الديني”، ودور الكنيسة في قيادة المجتمع، وهو عصر فقدان الإمبراطورية الرومانية لهيبتها، وظهور حياة البرجوازية في المجتمعات الأوروبية، وعصر الانجذاب إلى الأساطير اليونانية، وإيلاء العقل الأهمية بدلاً من التسليم بـ “الرجاءات والغيبيات والمحجوبات”، وظهور فلاسفة النزعة الإنسانية، أي الدوران حول الإنسان من جهة، وحول العلم من جهة ثانية.

ألف جيوفاني بوكاشيو “الديكاميرون” بسبب جائحة الطاعون (عام 1348)، وقد سمي هذا العام بـ عام الموت! فقد فتحت المقابر على وسعها مثل الخنادق، وراح الناس صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً يتوافدون عليها جماعات جماعات مستسلمين لقدرهم.

في الكتاب حوالي مئة قصة، كتبها بوكاشيو على لسان عشرة من الشبان – ذكوراً وإناثاً – اعتزلوا في مكان ريفي بعيد، وراحوا يغالبون الوقت بالقصّ، فسردوا خلال عشرة أيام مئة قصة، بمعدل عشر قصص في كل ليلة، ولكل ليلة موضوعة اجتماعية أو فلسفية تدور حول الحب، والتواصل بين البشر، ونزعة الخير ونزعة الشر، وما يميز المرأة من الرجل، والرجل من المرأة، والرغائب والأحلام وما تريده النفس من هذه الحياة، والأسئلة الدائرة حول العشق ومكابداته والرضا بقضائه، وحول السعادة ومطاردتها، وحول الشرور دائمة الحضور في البيوت والمجتمعات، والقيم الإنسانية والتبدلات التي تصيبها بحسب الظروف؛ ولهذا كانت القصص تحليلاً فذاً لبنية المجتمع الإيطالي من أجل الكشف عن معايبه وثغراته وفساد القيم بسبب الشهوات التي ما عادت تعرف حدّا أو لاجماً لها، وما جاءت به حالات الرغد والغنى والرفاهية التي عاشها الناس من سلوكيات وثقافات ما كانت لتخطر ببال أحد، ولم يكن الغنى سوى بوابة أفضت إلى الكثير من المهالك بعد أن قسمت المجتمع إلى أغنياء وفقراء. وعدا عن كل هذا فإن القصص تتحدث عن الطاعون وما فعله في المجتمع، وما جاء به من مغايرات، وفي طالعها الأحزان التي مشت في دروب الراحلين جماعات جماعات.

أعيد قراءة الديكاميرون، فأعيد معرفة آفة الأنانية التي أصابت المجتمعات المقسومة ما بين قوية وضعيفة، وغنية وفقيرة، وغلو المناداة بالخلاص الفردي، وكأن القول بأن العالم غدا قرية صغيرة.. أكذوبة ليس إلا!

أحزان ذات ظلال طويلة في الـ “الديكاميرون”، وحيرة ذات ظلال ثقيلة أيضاً، كلها تشبه أحزان الحاضر وحيرته التي سيطرت على العالم منذ بداية انتشار كورونا في مستهل هذا العام (2020). يقول بوكاشيو: وحين تحلّ ساعة الموت كانوا يحشرون ميتين أو ثلاثة موتى في النعش نفسه، وقد يستخدم التابوت نفسه أحياناً للمرأة وزوجها، أو لابنين أو ثلاثة أبناء.. فضخامة حجم الحدث جعلت الاهتمام بمن يموتون آنذاك أشبه بنفوق نعجة؛ وللأسف مازالت هذه الظلال الثقيلة تسيطر، وهذا يستدعي سؤال الفلسفة العظيم الأزلي: متى نعمل من أجل الإنسان العظيم، وليس من أجل المال العظيم؟!

Hasanhamid55@yahoo.com