أوان التخلص من “الاقتصاد المبهم “!
جاءت جائحة كورونا كاشفة مدى هشاشة أنموذج الاقتصاد الذي اتبعته الحكومات على امتداد السنوات السابقة، حيث رهنت مقدرات البلاد بأربعة محاور: الموارد الطبيعية (نفط وغاز وسياحة دينية)، والموارد البشرية (تحويلات المغتربين)، والموقع (المنافذ الحدودية)، وأخيراً المحور الاستراتيجي (المساعدات.,)، ومقابل ذلك أهدرنا الزراعة والصناعة وأهملنا التعليم والصحة!
وبرأي الخبراء والنتائج المستخلصة، فإن هذا الأنموذج لا يحقّق التنمية المستدامة، بل أدخل البلاد في دوامة من اتساع دائرة الفقر وتتابع موجات التضخم العاتية والتآكل المستمر لقيمة العملة وتراكم الدين الداخلي وتفاقم مشكلة البطالة، فأصبحنا لا ننتج شيئاً، بل نكتفي بعرض مواردنا للبيع في أسواق لا سيطرة لنا عليها.
لقد وجّهت جائحة كورونا، مع تنفيذ قرار قيصر الجائر، ضربة شديدة لمصادرنا جميعاً، وإن بدرجات متفاوتة، فأصبح الوضع الاقتصادي شديد الصعوبة بالنسبة للجميع: الحكومة والأسر والعمال ورجال الأعمال، فقد أدّت الجائحة إلى تخفيض الإيرادات العامة وزيادة النفقات العامة في وقت واحد، ما يعني زيادة عجز الموازنة العامة للدولة؛ كما تهاوت إيراداتنا من النقد الأجنبي وانخفض الاحتياطي وارتفعت البطالة وزادت الأسعار.
بناء عليه، لابد أن ندرك أنه لو كان الأنموذج الاقتصادي الذي اتبعناه هو الأنموذج الإنتاجي بدلاً من الأنموذج المبهم، لكان تأثير جائحة كورونا والحصار على اقتصادنا ومجتمعنا، أقل حدة بكثير مما هو الآن.
لذلك، فالحكمة تقضي أن نتخلى عن المسار الاقتصادي الحالي، وهذا يستدعي مراجعة جذرية للسياسات في مختلف المجالات؛ فمشروع الموازنة العامة للدولة المقدم إلى مجلس الشعب لم يرد فيه أي ذكر لتداعيات كورونا وتأثيره على الوضع المالي للبلاد، رغم الإجراءات التي اتُخذت بالفعل.
فما الذي توضح بنتيجة ما حدث..؟
بحسب خبرائنا الاقتصاديين، هناك أربع قضايا توضحت.
أولاً: اتضح من جائحة كورونا، الأهمية البالغة لتغيير النظرة إلى قطاع الصحة، فالخدمات الصحية ليست سلعة خاصة يتمّ تقديمها من خلال قوى السوق طبقاً لمنطق المكسب والخسارة، إنما هي في المفهوم الاقتصادي الصحيح سلعة عامة، ويجب توفيرها للجميع وعلى قدم المساواة كجزء أساسي من دور الدولة، خاصة وأن دستور البلاد يحدّد معايير تقديم هذه الخدمة وحدود التمويل اللازم لها.
ثانياً: ارتفاع معدل الأمية الأبجدية في البلاد، مقارنة بنظرائنا في المستوى الاقتصادي، ناهيكم عن الأمية الوظيفية وتراجع مستوى التعليم، فقد تبيّن من تداعيات كورونا، الخطورة البالغة لانتشار الأمية في المجتمع، حيث يصعب توجيه الرسائل المتعلقة بالإجراءات الاحترازية إلى المواطنين وضمان التزامهم بها بدقة، أضف إلى ذلك تدنى مستوى النظافة الشخصية والنزعة التواكلية في النظر إلى مخاطر العدوى بالفيروس (.. خليها على الله). وهذه كلها ظواهر مرتبطة بتدني التعليم وتفشي الأمية، الأمر الذي يستدعي الحاجة إلى التفعيل الحقيقي لنصوص دستور البلاد ذات العلاقة.
ثالثاً: كشفت الجائحة اضطراب سلاسل الإمداد العالمية، فضلاً عن اتجاه الدول المصدّرة للغذاء إلى وضع قيود على تصدير السلع الغذائية الإستراتيجية (مثل الحبوب)، وجعل الأولوية لاحتياجاتها المحلية، وهذا يضع الدول المستوردة للحبوب وفى مقدمتها بلدنا في موقف حرج، فبلدنا تعتمد على الخارج لتأمين أكثر من نصف احتياجاتها من الغذاء، وضع لا شك مثير للقلق من زاوية الأمن القومي.
رابعاً: تستلزم صلابة اقتصادنا في مواجهة الصدمات الخارجية، تعديل السياسات وزيادة الاستثمارات في قطاعي الزراعة والصناعة، بعد أن تراجع الاهتمام بهما تراجعاً شديداً على امتداد السنوات الماضية.
معالجة ما توضح تعدّ توجهاً إستراتيجياً يضمن حلّ مشكلات الفقر والتضخم والأمن الغذائي ويحافظ على قيمة الليرة.. أهم رمز لاستقلالنا الاقتصادي.
قسيم دحدل