مجلة البعث الأسبوعية

مابين التعاطي والترويج والاتجار.. المخدرات ترفع نسب الجريمة المجتمعية وتخرب الشباب بالإدمان

البعث الأسبوعية ــ بشير فرزان

حاولت كسب ثقتهم بشتى السبل والوسائل ولم أتوان عن تقديم أي مساعدة يحتاجها أولئك الشباب الصغار، مادية كانت أو معنوية، في سبيل كسر الحواجز بيني وبينهم ولأكون على مسافة قريبة من حياتهم، بما يسمح لي مشاركتهم بعض أسرارهم وخاصة نشاطهم الواضح في سوق تعاطي الحبوب المخدرة؛ ولكن بعد شهور من المتابعة والجلوس معهم لساعات طويلة أيقنت أنهم ليسوا بالسذاجة التي كنت أتوقعها، بل كانوا أكثر حرصاً مني واستطاعوا أن يرسموا خطوطاً حمراء للعلاقة التي كنت أسعى لها معهم، والتي كانت مثيرة دائماً لشكوكهم وتساؤلاتهم، وهي خطوط من الصعب تجاوزها من قبل أي شخص دون موافقتهم المشروطة بتناول خمسة ظروف من حبوب البلتان أو الكبتاغون مع مشروب XXL، ولأكثر من مرة ليكون واحداً منهم وليعطونه الأمان.. أي أن يصبح مدمناً مثلهم يشاركهم جلسات “الفرفشة” كنديم في التعاطي والشرب لا كضيف..!

الشيء الأكثر غرابة أنهم كانوا يحاولون الإيقاع بي، وطبعاً لم يطلبوا مني ذلك بشكل مباشر، بل بشكل مبطن: “لن تعرف اللذة ولن تفهم علاقتنا مع هذه الحبوب إلا بعد تجربة أكثر من ظرف منها وتناول المشروبات معها”!

هؤلاء الشباب الذين يتقاسمون جرم التعاطي والترويج والاتجار ليسوا إلا ضحايا شبكات كبيرة للاتجار بالمخدرات التي انتشرت بكثرة خلال سنوات الحرب، والغريب أنه رغم كل الجهود والمحاولات التي تبذل لوقف انتشار هذه الآفة إلا أنها موجودة وعدد ضحاياها يتزايدون، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر، من خلال الكثير من الجرائم التي ترتكب نتيجة الإدمان والتعاطي.. وفي المقابل، تؤكد الجهات المعنية بالمكافحة وتطبيق القانون أن جهودها وإجراءاتها أبطلت مفعول العديد من العمليات الإجرامية وحالت دون تفاقم الأوضاع .

 

بلد عبور

في مكتب العميد حسين محمد جمعة، مدير إدارة مكافحة المخدّرات تكليفاً، كانت ينتظرنا الكثير من المعلومات خاصة أنه كان متجاوباً مع كل التساؤلات وإجاباته تضمنت توضيحات وأرقاماً هامة تحاكي واقع تجارة المخدرات في بلدنا، وتعطي صورة عن انتشار هذه الآفة التي – بحسب العميد جمعة – كان نتيجة للظروف السياسية والأمنية المُعقّدة،ـ إذ يتم استغلال الحدود المشتركة مع الدول المجاورة لتنفيذ الغايات الإجرامية التي تعزّز الروابط بين العصابات الإرهابية وتجار المخدرات، حيث استُخدِمت المُخدرات كإحدى أدوات الإرهاب المُوَجَّه، فتجار المخدرات يطلبون الحماية لأنشطتهم غير القانونيّة والتنظيمات الإرهابيّة بحاجة إلى أموال لشراء الأسلحة والإنفاق على عناصرها واستقطاب أتباع جدد، ومحاولة اختراق الدولة أمنياً وسياسياً واجتماعياً بهدف تدمير ركائز الأمن والاستقرار الوطني بها, ونشر الفوضى فيها للسيطرة عليها، وفئة الشباب هي الأدوات التنفيذية المُستخدمة من قبلها، وهذا برأيه أدّى إلى ازدياد ظاهرة تهريب وتِجارة وتَعاطي المُخدرات، وأضاف بفضل الجهود التي بذلت تمّ إحباط العديد من عمليات تهريب المواد المخدرة والشبكات العاملة بها، وشهدنا تطوراً في الكمّ والنوع في المواد المضبوطة ممّا يؤشر لزيادة المتورطين في هذا المجال، وتعدُّد وسائل التهريب والطرق المُتّبعة فيه.

 

في أوساط الشباب

وأكد العميد جمعة أنّ شريحة الشباب هي الفئة المُستهدَفة في المجتمع السوري والأكثر تعاطياً للمواد المُخدّرة، وقد اتُّخذت عدّة إجراءات وقائيّة وتوعويّة موُجّهة لفئة طلاب المدارس والجامعات عبر اللجنة الإعلاميّة لمُكافحة ظاهرة المُخدّرات وبالتعاون مع الوزارات والمُنظّمات الشعبيّة المعنيّة وتمّ اعتماد خطاب توعوي علمي مُوحَّد للجهات المُنفِّذة للفعاليّات التوعويّة واللجان الإعلاميّة الفرعيّة في المحافظات ووفق خطط مرحليّة، وقُدِّمَ إلى وزارة التربية دليل تعريفي بأنواع المُخَدّرات وآثار تعاطيها المُختلفة على الفرد والأسرة والمجتمع من إعداد إدارة مكافحة المخدرات في وزارة الداخليّة، كما تمّ تقديم عدّة محاضرات توعويّة بناء على دعوات من بعض الجامعات. وأضاف: لاحظنا أنَّه يتم تداول معلومات غير دقيقة مع تهويل واضح وتعميم مُبالغ فيه، ونحن نتوخّى الدقة في متابعة جميع المعلومات الواردة إلينا، ونُرَحِّب بأي تعاون يهدف لتجنيب طلابنا أخطار المخدرات وعواقب تعاطيها، ويجري التعامل بحذر مع القضايا ذات الصلة بفئة طلاب المدارس والجامعات، حيث يتمّ التركيز على مُروّجي ومصادر المواد المُخدّرة، وفي هذا الخصوص فإنّ معظم الحالات تكون محدودة وفرديّة، وتفيد المعلومات المتوافرة لدينا بوجود حالات لا يتمّ فيها تعاطي المًخدرات الشائعة (حشيش مخدر، هيرويين، كبتاغون)، بل يجري إساءة استخدام للأدوية المُسكِّنة والمُهدِّئات والأدوية النفسيّة الموجودة في الصيدليّات, علماً أن هناك عدة تعاميم صادرة عن وزارة الصحة ونقابة الصيادلة تنصّ على عدم بيع الأدوية النفسية إلّا بموجب وصفة طبيّة رسميّة صادرة عن طبيب مُختصّ، وهناك تأكيد على هذه التعاميم وفق توصيات الاجتماع الأخير للجنة الوطنيّة لشؤون المخدرات.

 

إجراءات للمكافحة

وعن الإجراءات التي تتخذها إدارة المخدرات لمكافحة هذه الآفة، وخاصة فيما يخص مراقبة الحدود ومتابعة التجار والمروجين والتحديات التي تواجهها، أشار العميد جمعة إلى تنفيذ إستراتيجية مكافحة العرض وخفض الطلب، وذلك من خلال اللجنة الوطنية لشؤون المخدّرات، وتابع: هناك اهتمام كبير وعناية فائقة بمسألة المكافحة العملياتيّة والجهود المبذولة في مكافحة المخدرات مستمرة ومتطورة دائماً وهي جهود مركّبة ومُعقّدة أيضاً, وقد قامت إدارة مكافحة المخدرات وفروعها بتنفيذ العديد من العمليات النوعيّة لجهة كمية المواد المخدرة المضبوطة, وللأسلوب المُتبع في ضبطها، بالإضافة لكشف أساليب الإخفاء التي اعتمدها المروجون والمهربون، وذلك من خلال تطوير أساليب البحث والضبط, حيث تم الاعتماد على عملية التدريب المستمرة لضباط وعناصر مكافحة المخدرات.

 

تعاون دولي

ولفت إلى أن سورية بلد عبورٍ نظراً لموقعها الجغرافي لافتاً إلى مشاركة الجمهورية العربية السورية عبر إدارة مكافحة المخدرات في وزارة الداخليّة ضمن فعاليّات الأسبوع الإلكتروني الدولي الذي نظّمّته الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات للكشف عن تأثير جائحة كورونا على الإتجار العالمي بالمخدرات والجريمة عموماً ومناقشة الحلول العمليّة المُحتملة، وذلك في أواخر شهر أيار، وقال: “هذه المشاركة تمت رغم ظروف الحصار الجائر وعدم دعمنا وتزويدنا بالوسائل الفنيّة المًنتجة حديثاً في التعامل مع النواحي المُختلفة لقضايا المُخدّرات”.

 

لغة الأرقام

وعن الإحصائيات الأخيرة حول المخدرات لناحية الكميات وعدد المتورطين في التجارة والتعاطي، قدم لنا العميد جمعة إحصائية شاملة عن المواد المخدّرة المضبوطة في سوريّة خلال الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، فقد بلغ عدد القضايا 2270 قضية، وعدد المتهمين 2950 متهماً. أما المصادرات فقد بلغت 573 غرام، و2000 كغ حشيش مخدّر، و1 كغ غرام هيروئين مخدّر، و182 غرام كوكائين مخدّر، و13474515 من حبوب الكبتاغون المخدّرة، و42465 حبوب دوائية نفسيّة: ماريجوانا 54 سنتغ، 27غرام – بذور القنّب الهندي443 غرام – الأمفيتامين 200 غرام –     سيلفيا 518 غرام – زيت الحشيش 55 غرام، إضافة إلى عجينة تحتوي مادة الأمفيتامين 4.855 كغ، ونبات القنب الهندي “القنبز” 225 غرام.

 

سرية العلاج

العديد من الأخصائيين النفسيين والذين لديهم تجربة في معالجة مشكلات الإدمان والتعاطي أكدوا لنا أن الإدمان هو مجموعة المظاهر الجسدية والسلوكية والمعرفية التي تنتج عن الاستخدام المتكرر لمادة ما، والرغبة الشديدة في استخدامها، ومع مرور الوقت تزداد الكمية التي يتناولها المدمن للحصول على المتعة التي تؤدي في النهاية إلى التدهور المادي والاجتماعي والصحي، وأحيانا كثيرة إلى الوفاة، وبينوا أن العلاج في المشفى، وغير ذلك من المحاولات العائلية للعلاج في المنزل، تفشل بنسبة 99% لعدم قدرة الأهل والمحيطين بالمتعاطي على السيطرة عليه خلال مرحلة السحب (أي زوال المادة منه)، فبعد انتهاء المرحلة الأولى يعود المريض إلى توازنه ويستمر بتناول القليل من الأدوية الداعمة نفسيا مثل مضادات الاكتئاب ومثبتات المزاج أو مهدئات بسيطة لا بد منها.

وحول مشكلات علاج الإدمان أشاروا إلى أن أكثر من 80% من المرضى لا يعودون لمتابعة العلاج بعد التخرج من المشفى، ويتخلفون عن إعادة التأهيل والدعم، وبالتالي يكونون عرضة للنكس، وهذا ما جعل الكثيرين منهم يدخل إلى المشفى لأكثر من مرة (4 – 5 مرات)، ثم يعودون للتعاطي؛ وهنا نشير إلى أن مشفى ابن رشد المختص بمعالجة المدمنين بات الآن في زمن كورونا أحد مراكز الحجر الصحي، ولفت الأخصائيون إلى أن نسبة انتشار الإدمان بين الذكور أكثر من الإناث، إلى جانب تزايد المواد التي يدمن عليها وانتشار الإدمان في أعمار صغيرة (9 – 15) سنة .

وأشاروا إلى دور العوامل البيولوجية في الإدمان كالوراثة، حيث تلاحظ زيادة الإدمان في عائلات معينة، ولكن لا يمكن الجزم بأن كل أب أو أم مدمنة سينقلان هذا الإدمان إلى الأطفال، بل ستكون هناك نسبة أعلى لوجود الإدمان في هذه العائلة عن غيرها من الأسر، كما بينوا أن الأمراض الجسدية المزمنة التي تحتاج إلى مسكنات بشكل دائم، مثل الأورام والاضطراب بالنواقل العصبية التي لها علاقة بالمواد التي ينشأ عنها الإدمان، تجعل الشخص مؤهلاً أكثر من غيره للإصابة بالمرض الإدماني، إضافة إلى العوامل النفسية كوجود مرض نفسي ومحاولة الشخص علاج نفسه مما يوقعه في الاستعمال الخاطئ للأدوية، واضطرابات الشخصية وعدم نضوجها مما يجعلها باحثة عن اللذة بشكل غير ناضج، ومحاولة الإشباع الفوري للرغبات.

 

رأي قضائي

من خلال تجربته القضائية، بيّن المستشار رشيد موعد أن التعامل بالمخدرات، بالاتجار أو التعاطي، يشكل تهديداً حقيقياً للمجتمع بأكمله، وعلى قيمه الأخلاقية والاجتماعية؛ وبيّن أن معظم التشريعات أجمعت على أن الإدمان مرض يجب علاجه ومعالجة المدمن كي يتخلص من إدمانه، وذلك أجدى وأنفع من حجز حريته وتوقيفه، وقد أخذ المشرع بهذه القاعدة، فنص في صلب المادة 43 من قانون المخدرات رقم 2 لعام 1993 على عقوبة التعاطي المتمثلة بالاعتقال المؤقت مدة ثلاث سنوات، ثم أعطى المحكمة الحق أن تأمر بوقف تنفيذ هذه العقوبة وإيداع من يثبت إدمانه في مركز المعالجة، وتُمنع إقامة دعوى على من يتقدم من تلقاء نفسه لمعالجة الإدمان، أو تطلب زوجته أو أحد أقاربه حتى الدرجة الثانية إيداعه في مركز المعالجة على ألا تقل فترة العلاج عن ثلاثة أشهر ولا تزيد عن ستة، ويتم الإفراج عنه من قبل لجنة مختصة، علماً أن إجراءات العلاج تتم بسرية تامة (المادتان 43 – 44 من قانون المخدرات) حتى لا يشعر بأي حرج.. أما إذا ضبط بالجرم المشهود فيحال موجوداً إلى القضاء، ويفقد هذه المنحة التي أعطاها له القانون. وبيّن موعد أن من أسباب التعاطي التفكك الأسري، وانعدام الرقابة على الأبناء، والخلافات الزوجية، وحدوث الطلاق، وغياب الرقابة على المدارس، إضافة إلى الفراغ الذي يعاني منه الشباب، وغياب الوعي الديني.

 

حقائق

الأحداث المأساوية التي نعيش تداعياتها اجتماعياً وأخلاقياً ومادياً وصحياً ساهمت إلى حد كبير في انتشار الجرائم بأنواعها والتي تتلطى وراء جرائم التعاطي والإدمان في غالبيتها، ولكن هذا الواقع يبقى في خانة الظرف الاستثنائي الذي سينتهي بانتهاء هذه الظروف واستعادة الناس وجميع الفعاليات المجتمعية والمؤسسات المعنية لدورها وحضورها الأمثل في المجتمع، ويبقى الرهان على دور التربية الأسرية والمدرسية في حماية الأجيال من هذه الآفة الخطيرة .

وبالعودة إلى أولئك الشباب الذين حاولت أن أدخل عالمهم من بوابة الصداقة “الرفقة”، وبعد أن استطلعت عن أخبارهم، علمت أن منهم من قضى شهيداً أثناء تأديته الخدمة الإلزامية، وهناك من بات في السجن بتهم السرقة والتعدي على الآخرين، وهناك من يتابع في يوميات “الفرفشة” والتعاطي والترويج والاتجار ليقع في شر أعماله، حيث وبعد خلاف على المواد المخدرة تم إطلاق النار عليه ونقله إلى المشفى.. هذا إلى جانب مقتل شاب أخر كان يحاول الإصلاح بين المتشاجرين الذين باتوا بين جريح وقتيل ومجرم خلف القضبان بسبب المخدرات.