أنس يفجّر الصمت
سلوى عباس
كان حضورنا الدائم معاً يثير الجميع.. كنا أشعلنا لقلوبنا دفئاً من حب وتوارينا دائماً في اشتياقنا الوردي.. كنا نرى أن لاشيء يمكن أن يهدئ من خفقات قلوبنا، لكني وحدي كنت أعرف أن الشوارع ليست لنا.. ولا خضرة كراسي الحديقة.. كنت أعرف أن الناس تخلق بيننا.. بل حولنا سوراً من شكوك وغيرة.. لم يعرف أحد أننا لسنا نحن.. إنما أجساد تشبه أجسادنا.. عيون كانت يوماً ما لنا.. أرواح تاهت في دهاليز الآخر.. أيها القابع في سراديب روحي لأول مرة سأقول لك: افعل ما تريد، واتركني أفعل ما أريد.. فأنا أريد أن أتحرر منك.. من ذكرك.. وليتحقق ذلك، عليّ أن أتحرر حتى من نفسي.. من ذاكرتي.. أريد أن أنساك.. وأنسى علاقتنا الغريبة.. أنا لا أستطيع أن أكون إلا أنا.. لا يمكنني الضحك لحظة البكاء، لكنني عندما ينتابني الفرح قد أضحك حتى البكاء لأنه وحده الصادق وعنده تجتمع مفارقات حياتنا وأضدادها.
****
لم أكن أعرف من أنا في هذا الركام من التعب.. لم أستطع التعرف على ذاتي.. لم أتذكر حينها إن كنت تلك الطفلة أم الجدائل الطويلة وشرائط العيد الملونة، أم تلك الصبية الحالمة في أول تشكل قمرها.. كنت على مفترق الحيرة لا أدري في أي مكان أقف، أضعت ملامحي منذ أحببتك وأصبح كل تفكيري واهتمامي بك.. صرت أهرب منك إليك.. هل قلت لك ذات مساء كم كنت تعجبني؟ هل أخبرتك كم أحببتك؟ هل قلت لك في لحظة جنون كم آلمني ما حدث بيننا.. هل اعترفت لك كيف تمحورت حياتي كلها حولك؟ هل قلت لك كم كنت قادراً على إعادة تكويني وخلقي؟ أعتقد أني قلت كل ذلك وأكثر.
****
هذا الصوت المنبعث من كل مكان يملأ الأماكن بحضور سحري، يملؤها ضجيجاً وصخباً وأنساً يفجر الصمت، يسكت الملل ويتدفق هادراً يحكي صداه في المسامع والآذان. فعندما يرتفع صوتك ويرتد إليك الصدى وما من مجيب.. وعندما تقف على ضفة تنادي آخر على ضفة أخرى فتكتشف أنك تمد يدك للسراب، لأن هذا الآخر يعيش في عالم مختلف عن عالمك، تكتشف أنك شخص مفرد في حياة تحكمها غايات قد لا تمتلك مقوماتها، فينفّض عنك من لا يجدون لديك ما يستفيدون منه، فتنكفئ على نفسك مهزوماً في واقع مقنّع بقيم مزيفة تسعى لتغييره علك تجد فيه مكاناً لك، فترى نفسك تنظر في مرآة متشظية لا تعكس إلا روحك التي هشمتها حياة جرجرتنا جميعاً في متاهاتها، وأفقدتنا إنسانيتنا بلهاثنا وراء لحظة هاربة من عمرنا للإمساك بها، دون جدوى.. لن تلمح في المرآة ما تلمحه في وجه صديقك، لذا ستبتعد عنه وأنت تقول في نفسك مستغرباً كم يبدو متقدماً في العمر! كيف انحسر شبابه وغدرته صحته ونضبت نضارته؟ هل السر بك؟ في قوة روحك؟ أو فيمن تحب وفيما تعمل؟ ما هو زادك الذي تقتات به كي تمسك بعمرك وتحافظ على صلابة قامتك؟ ما الذي تحمله في حقيبة عمرك؟ فقد مررت مثل صديقك بمراحل الطفولة والطيش والنضج، يكسو عظامك الجلد وتغذي جسدك الأوردة، فلا تستغرب أن يراك صديقك كما رأيته لا كما أسرّت إليك به مرآتك هذا الصباح، والسر في ذواتنا لأننا نرفض كل ما يجعلنا خارج المنافسة وخارج دائرة الضوء، فنحن نحب أن يرانا الآخرون كما نرى أنفسنا وكما تقوله لنا مرآتنا.