مراحل صعبة مرّت بها الليرة..! سوء التعاطي مع سعر الصرف حرف بوصة الحكومة عن معالجة الأسباب!
“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي
منذ العام 2011 والليرة السورية ترزخ تحت ضغوط من عيار ثقيل، فما إن تستجمع قواها في لحظة من اللحظات، وتستقر لفترة من الزمن، حتى يتكالب عليها من يتربص بها شراً ليضعضع قوامها، سواء بشكل مباشر من المضاربين ومن لف لفهم، أم بغير مباشر – عن قصد أم عن غير قصد – من المعنيين بتعزيز الإنتاج من القطاعين العام والخاص، من خلال سوء التدبير وعدم اتخاذ القرارات المناسبة، خاصة فيما يتعلق بسياسات التمويل للمشاريع الاستثمارية، والتي لا تزال حتى اللحظة في حالة تخبط تحول دون انسياب ما يتكدس في المصارف من كتل مالية ضمن القنوات الاستثمارية، علماً أن الحكومة عموماً، وفريقها الاقتصادي خصوصاً، لم ينكفئوا عن الحديث عن اقتران تحسين سعر صرف الليرة بتحسين الإنتاج، وأن الأخير مرتبط بالضرورة بالتمويل..!
مراحل وعتبات..!
مرّ انخفاض سعر صرف الليرة السورية بمراحل عدة، وفي كل مرحلة كان سعرها يستقر عند عتبة معينة، ليعاود الانخفاض مجدداً، متأثراً بعوامل عدة، منها ما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، وأخرى لها علاقة بنشاط المضاربين بين الفينة والأخرى، وثالثها لا يخرج عن سياق تذبذب السياسات الاقتصادية وعدم تصحيحها لمسار الإنتاج، ولاسيما لجهة إحداث توازن بين العرض والطلب في السوقين الداخلية والخارجية لكثير من المنتجات، خاصة الزراعية منها؛ ففي كل عام، تقع الحكومة في مطب “العجز بتصدير الحمضيات”، مع أنه لا يختلف اثنان على أن التصدير مسرب مهم لتوريد القطع الأجنبي، وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من المنتجات الأخرى كـ “الألبسة”، ويتشارك قطاع الأعمال مسؤولية انحسار التصدير إلى أدنى مستوياته، بدليل أن اتحاد غرف التجارة يوجه بوصلته نحو الاستيراد تحت ذريعة “تأمين حاجة السوق المحلية”، ودائماً يضغط باتجاه توسيع دائرة الاستيراد، متجاهلاً التصدير كوجه آخر من نشاطه، وقد سعى إلى إلغاء اتحاد المصدرين على اعتبار أن التصدير من صلب مهامه.. وبالفعل كان له ما أراد، ليتجاهل بعد ذلك ما يريده الاقتصاد من تنشيط فعلي للتصدير..!
تدخل جدي
آخر المراحل التي مرّ بها سعر صرف الليرة تعرضها بداية العام الجاري إلى ضغوط غير مسبوقة طيلة العقد الأخير، ليتخطى سعر صرفها أمام الدولار بالسوق السوداء حاجز الـ 3000 ليرة، فما كان من الدولة السورية عندها إلا التدخل السريع، وضرب أركان المتاجرين بها، عبر اتخاذها إجراءات لا تحتمل التأخير (محاصرة المضاربين في عقر دارهم – مكافحة التهريب وسد مساربه الخفية – وقف منح التسهيلات الإئتمانية الدوارة بسقوف مفتوحة)، لتتمخض هذه الإجراءات، وبالفور، عن نتائج طيبة انعكست على تحسين سعر صرف الليرة بشكل ملحوظ..!
على موعد جديد
مصادر في سوق القطع أكدت لـ “البعث الأسبوعية” أنه في حال استمرت هذه الإجراءات، فإن سعر الصرف سيشهد تحسناً أكبر، مبينة أن سد مسارب التهريب لوحده حال دون استنزاف ما يقارب الـ 3 مليون دولار من السوق المحلية، كما أن وقف التسهيلات الإئتمانية الدوارة ساهم أيضاً بتحسين سعر الصرف، وإذا ما تم سداد ما تم منحه من هذه التسهيلات لكبار المتمولين فإن السعر على موعد مع تحسن جديد. كما ركزت المصادر على التصدير كعامل مهم لتحسين سعر الصرف، داعية الحكومة إلى الاشتغال على هذا الجانب وتعزيز النشاط التصديري مع دول الجوار خاصة العراق ولبنان، مشيرة إلى أن سوق الأخيرة بدأت تتجه لاستجرار العديد من المنتجات من نظيرتها السورية بعد كارثة مرفأ بيروت.
قد يفوق التوقعات
وفي الوقت الذي ركزت فيه مصادرنا على اهتمام الدولة السورية بالحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة، أبدت تفاؤلها بأن سعر الصرف إلى مزيد من التحسن، ويمكن أن يفوق التوقعات في حال تم إعطاء مزيد من الزخم للبنية الإنتاجية ككل، مع الأخذ بعين الاعتبار المشروعات الصغيرة والمتوسطة كرافعة اقتصادية، سواء لنظيراتها الكبيرة، أم للاقتصاد الوطني، أم لتحسين دخل الأسر السورية.
تعاط خاطئ
يتعاطى الكثيرون، للأسف، مع سعر الصرف كهدف وليس كمؤشر، بمعنى أنهم يحشدون كل طاقتهم نحو تخفيضه مهما كلف الأمر، وبعيداً عن اتخاذ أي إجراء اقتصادي، متجاهلين أنه بالنهاية مؤشر يدل على مدى ازدهار الواقع الاقتصادي على كل المستويات، وخاصة الإنتاجية والمعيشية منها، وبالتالي من المفروض توجيه البوصلة نحو الإجراءات الاقتصادية الحقيقية الكفيلة بتفعيل المشاريع الإنتاجية، وانعكاسها بالنتيجة على تحسين سعر الصرف، وليس تركيز الجهود على سعر الصرف حصراً عبر القيام بإجراءات إدارية تضمن استقراره لفترة بسيطة فقط، مع الإشارة، في هذا السياق، إلى إمكانية الأخذ بالأمرين معاً، ولكن دون إغفال أو تجاهل الأسباب المؤدية لانخفاض سعر الصرف، فبذلك نكون بالفعل قد تعاطينا بشكل صحيح مع الأسباب وليس مع النتائج. وفي هذا السياق، تؤكد مصادرنا أن المشكلة ليست بالليرة وإنما بعدم وجود تناسق بين الأساسيات والنتائج في الاقتصاد السوري، فالمشكلة في سورية هي بإدارة الليرة وإدارة أسعار الصرف، فالليرة لا تتأثر فقط بأداء المصرف المركزي وإنما بالأداء الحكومي ككل، حيث أن قرارات معظم وزاراتنا غير واضحة ومترددة، وتفتقد إلى التنسيق بين مصدريها.
تخوف
لعل التخوف الأكبر هو هروب المستثمر الذي طالما سعت حكوماتنا المتلاحقة إلى استقطابه بغية تدعيم أواصر اقتصادنا الوطني، ليبحث عن بيئة أكثر استقراراً له ولأمواله واستثماراته، وبالتالي فإن العمل الحكومي يجب أن ينصب في الوقت الراهن باتجاه التدخل لإنقاذ الليرة، من خلال العمل على الاقتصاد الإنتاجي، والبحث عن أسواق جديدة للتصدير، وبقدر ما تكون الحكومة قادرة على التحرك بسرعة ومرونة في هذا الاتجاه بقدر ما تدعم الليرة عبر الحصول على قطع أجنبي جديد.
نمطية استثنائية
نعتقد أنه آن الأوان إلى تغيير نمطية تعاط لا علاقة لها بسعر الصرف، مع الدولار كمقوم ليس لأي نشاط تجاري فحسب، بل لأي حركة يقوم بها أي مواطن. وقد سبق وأشرنا إلى أن من “سخرية الاقتصاد” أن يصبح سعر الصرف وتذبذباته حديث الشارع برمته، وأن يدعي من لا تمت مهنته أو حرفته للدولار بصلة أن ارتفاعه أثر على رفع تكاليف إنتاجه، حتى وصلنا إلى حالة مَرَضية يسيطر فيها شبح انهيار الليرة على نفوس كل من بحوزته كتل مالية بغض النظر عن حجمها، في ظل عدم وجود توضيح شفاف ومسؤول، سواء من المركزي أم من أية جهة اقتصادية رسمية أخرى، يشرح وضع الليرة ومستقبلها المقترن والمتداخل مع أساسيات اقتصادنا الوطني، إذ أصبحت مراقبة أسعار الصرف أول عمل يومي يقوم به المواطن قبل المستثمر، نتيجة التوجس المتملك لهما، وهذا يجعلنا نستحضر ما يؤكده العارفون بعلم الاقتصاد من تأثير العامل النفسي على الاقتصاد عموماً والعملة بشكل خاص، رغم أنه علم تحكمه أساسيات منطقية ورياضية..!
طبيعي ولكن..!
ما يعيشه اقتصادنا الوطني اليوم من أزمة اقتصادية، سببها بالدرجة الأولى العقوبات الاقتصادية، كفيل بإحداث هزة بعملتنا الوطنية حتى ولو كانت مقومة بعوامل منطقية جديرة بالحفاظ على استقرارها، ما يضع بالمحصلة مصرف سورية المركزي على محك اعتماد مبدأ التنبؤ بالآجال القصيرة أسوة ببقية المصارف المركزي، وذلك لاتخاذ القرارات المناسبة لاحتواء أية أزمة مرتقبة بالأفق، فبذلك يتم تفادي التعاطي مع الأزمات المحتملة بردة الفعل. فتدخل المصرف المركزي يجب أن يكون استباقياً، شأنه شأن نظرائه في أغلب دول العالم، والتي تتبع لها مراكز دراسات تتنبأ بما ستؤول إليه الأوضاع في المستقبل القريب جداً، حتى لا تكون القرارات متأخرة، وبالتالي تفقد فاعليتها.