الاقتصاد السياسي لآيا صوفيا
“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة
يشكل السقوط الحر، الذي شهدته الليرة التركية مؤخراً، مؤشراً هاماً على الحالة الصحية العامة للاقتصاد التركي، إذ انخفضت منذ بداية عام 2020 بنسبة تصل إلى 20% مقابل الدولار الأمريكي. ومع ذلك، فقد امتصت نشوة آيا صوفيا والرمزية الشديدة للعودة إلى المجد العثماني – إلى حد كبير – الأثر السلبي لهذا السقوط على الاقتصاد والسياسة. وعلى الرغم من محاولة أردوغان إرجاع انخفاض قيمة العملة في الآونة الأخيرة لانتشار الوباء وانفجار بيروت، فإن الاقتصاد التركي، فعلياً، كان على وشك الانهيار قبل أن يضرب الوباء تركيا أصلاً.
وإضافة إلى هزيمة أردوغان المذلة في انتخابات العام الماضي، عندما فقد حزبه السيطرة على البلديات الكبرى، بما في ذلك العاصمة أنقرة والمركز التجاري في إسطنبول، فقد فقدَ البنك المركزي التركي – على الرغم من اقتراض البنوك التركية المفرط للعملات الأجنبية لتعزيز احتياطاتها بصورة مصطنعة – ثلث احتياطياته من القطع الأجنبي هذا العام، ما يؤكد أن الأزمة الاقتصادية المستمرة أسقطت فعلياً قناع من نصب نفسه الزعيم العثماني الجديد، عندما قرر تحويل آيا صوفيا، من متحف إلى مسجد.
من المؤكد أن تركيا ليست بحاجة لمزيد من المساجد، فقد افتتح أردوغان العام الماضي مسجد تشامليجا في الجانب الآسيوي من اسطنبول – وهو مجمع ضخم مصمم لاستيعاب ما يزيد على 60 ألف مصل يومياً. لذا يمكننا القول أن تحويل آيا صوفيا إلى مسجد لم يكن لاستيعاب المزيد من المصلين، لكن بهدف إعطاء شحنة قومية دينية للمشهد السياسي المحلي لمساعدة أردوغان على رفع مكانته السياسية فوق الاقتصاد المتضائل وتدخلات تركيا الخارجية المكلفة في ليبيا وسورية والعراق.
في الواقع، عندما بدأ الوباء بالانتشار في تركيا كان الاقتصاد التركي في حالة يرثى لها، ما أجبر أنقرة – التي تفتقر إلى التمويل اللازم لتوفير درع اجتماعي هادف لمكافحة التداعيات الاقتصادية التي قد يتسبب فيها الوباء – على إطلاق حملة لجمع التبرعات من الجمهور.
في الحقيقة، فشلت هذه الإجراءات في إعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح، ويبدو أن الاقتصاد المنكمش لا يبشر بالخير بالنسبة لمستقبل أردوغان السياسي، ما يفسر أيضاً سبب عدم اتخاذ النظام قراراً بالطرق على باب صندوق النقد الدولي.
فعلياً، ذهبت حوالي 85 دولة إلى صندوق النقد الدولي بحثاً عن حزم إنقاذ، بسبب التأثير السلبي للوباء على اقتصاداتها. لكن ذهاب تركيا إلى صندوق النقد الدولي في هذه المرحلة، مع استمرار الرواية الرسمية في تصوير تركيا على أنها “اقتصاد قوي”، كان من الممكن أن يكون وسيلة لتدمير الذات.
في الواقع، لطالما شوه أردوغان وحزبه – العدالة والتنمية – سمعة أسلافه لاقتراضهم من صندوق النقد الدولي، مصوراً تركيا الجديدة على أنها قوية اقتصادياً وليست بحاجة إلى الدعم، مع أن واقع الحال يؤكد أن استمرار الانهيار الاقتصادي ستكون له تداعيات سياسية خطيرة على أردوغان، ما يسمح للمعارضة بحشد الجمهور ضده. وبالتالي، لجأ أردوغان بشكل متزايد إلى الشعبوية لدعم أوضاعه الفاشلة وخلق ستائر دخانية من “المجد العثماني”.
من خلال إسقاط هذا التحول على أنه “إعادة فتح” و”نصر عظيم”، شدد أردوغان على الرسالة السياسية المتمثلة في إيجاد أرض “عثمانية جديدة” تتجاوز الحدود الإقليمية الحالية لتركيا. في الواقع، كان نظام أردوغان أيضاً يبرز التدخلات الخارجية لتركيا، لا سيما في ليبيا، كمفتاح لعودة وإحياء “المجد العثماني” المفقود.
في هذا السياق، يرمز تحويل آيا صوفيا إلى الارتفاع المتزايد للقوى الدينية في تركيا، وتجذر الدافع نحو استعادة المجد المفقود في النمط الأردوغاني للقومية التركية وربطها بالدين، وهيمنة ممارسي نوع محدد من الإيمان. وفي حين سارعت دول غربية كثيرة إلى انتقاد هذه الخطوة، استطاع أردوغان تحويل هذا النقد لصالحه لتقديم وثائق تفويضه بـ “العثمانية الجديدة” بشكل أكثر فاعلية لناخبيه وتعزيز صورته كزعيم قوي يعمل على استعادة مكانة تركيا كقوة عالمية وكمركز روحي للعالم الإسلامي.
استثمر نقاد الإعلام الشعبوي المقربون من النظام وقتهم وطاقتهم في تمجيد هذا التحويل باعتباره إحياءً للمجد الضائع. ورأى الصحفي التركي والمنظر الإسلامي يوسف قابلان أن هذا التحويل هو بمثابة “استعادة تركيا لهويتها وتاريخها وروحها وتحررها العقلي.. إعادة افتتاح مسجد آيا صوفيا هو الشرارة التي ستطلق الرحلة العظيمة للهروب من سلسلة الأكاذيب التي نسجها الغرب – والتي دخلناها طواعية – لبناء عصر جديد..”.
يتحدث الخطاب كثيراً عن الشعبوية، حيث يتوقع أن “تبتعد” تركيا عن الغرب، على الرغم من أن النظام نفسه يستمر في الترويج للأفكار الأمريكية لخلق مناخ عالمي لمواجهة الصين.
بالنسبة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية، فإن هذا التحويل هو المفتاح الرمزي لقيادة تركيا وريادتها في العالم الإسلامي.. هكذا يتحدث النظام مع ناخبيه.
ويرى قابلان “أن تحويل آيا صوفيا يدل على أن تركيا في طريقها للنهوض إلى مكانة الدولة المؤسسة التي ستنطلق لعصر جديد، وقيادة العالم الإسلامي في إيجاد عالم جديد، والإعلان للعالم بأسره أن تركيا هي الدولة الوحيدة التي يمكنها تحقيق ذلك”.
هذه هي استراتيجية أردوغان السياسية الشعبوية التي ينوي استخدامها لمواجهة المعارضة السياسية التي كانت قادرة على تركيز حملتها بالكامل على قضايا التنمية الاقتصادية والفساد في حزب العدالة والتنمية لهزيمة الحزب الحاكم مرتين في انتخابات اسطنبول.