مجلة البعث الأسبوعية

طبيعة التنافس الاستراتيجي بين روسيا والولايات المتحدة

“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: علاء العطار

يسعى خبراء السياسة الدولية إلى تحديد طبيعة العلاقات الراهنة بين روسيا والولايات المتحدة، إذ من الواضح أن هناك صراعاً بينهما، ولكن أيّ صراع هذا؟ هل هو شبيه ببدايات الحرب الباردة، بمعنى فترة الحرب الكورية وأزمة الصواريخ الكوبية؟ أم أنه يشبه الفترة المتأخرة منها، والتي ترافقت مع اتفاقيات الحد من التسلح الاستراتيجي وعملية هلسنكي؟

من الواضح أن كلا الاستعارتين خاطئتان، إذ إننا نشهد اليوم تدمير تلك الأنظمة المقيدة، لكننا نشهد في الوقت نفسه الدور الذي تلعبه القوات الروسية والأمريكية في مسرح العمليات العسكرية في سورية، دون أن تتصادما مع بعضهما البعض.

لكن.. ألا يندرج ذلك تحت مسمى الصراع؟ تتنافس روسيا والولايات المتحدة على النفوذ والمكانة في العالم، وتبدو المواجهة شديدة في حزام الحدود الروسية بشكل خاص، لأنها تؤثر على المصالح الحيوية لروسيا. ومع ذلك، سيكون من الجائر وصف هذه المواجهة من الناحية التاريخية، فنحن نشهد نوعاً جديداً من العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، نقطة جديدة على طيف الصراع الذي يشمل ألواناً مختلفة.

الهدف الرئيسي من هذا التنافس هو تحديد قواعد جديدة مشتركة في النظام الدولي بأكمله. ولوصف هذا النوع الجديد من العلاقات، من المريح استخدام مصطلح “التنافس”، الذي ظهر لأول مرة في مفهوم السياسة الخارجية الروسية في العام 2008. ففي عملية التنافس، تحدد الدول بالضبط كيف سيتم تنظيم العالم، ومن سيبدأ بوضع القواعد التي يعمل من خلالها، ومن سيصبح المستفيد الرئيسي من تطبيق هذه القواعد.

استناداً إلى نظرية الصراع، قد تأخذ المنافسة أحد نوعَيْن – من الممكن أن يكون استراتيجياً: عدوانياً وعدائياً، أو قد يكون طبيعياً. يتميز التنافس الاستراتيجي بأنه برنامج عمل نشط مدعومٌ بموارد كبيرة ويهدف إلى تغييرات كبيرة ومؤاتية في التوازن الحالي. والتنافس الاستراتيجي ثوريّ، إذ يحدث بسرعة، وعلى مدى فترة زمنية قصيرة، ويهدد مصالح الخصوم بشدة.

أما التنافس الطبيعي فهو تطوريّ، وهو ارتكاسي ونفعيّ وبطيء نسبياً، فقد تستغرق التغييرات الملحوظة في النظام الدولي والتي تنتج عن مسار التنافس الطبيعي وقتاً طويلاً. وعليه، فإن التنافس الطبيعي لا يهدد حياة الخصوم.

شهدنا خلال أول عقدين بعيد نهاية الحرب الباردة مرحلتين متتاليتين من التنافس الاستراتيجي الأمريكي في أوراسيا. في التسعينيات، كانت استراتيجية توسيع النظام العالمي الليبرالي في أوروبا. وكانت نتائجه الملموسة هي توسيع حلف الناتو، وإنشاء الاتحاد الأوروبي وتطويره، وإدراج بعض دول ما بعد الاتحاد السوفيتي في مدار النفوذ الغربي. لكن هذه السياسة، على الرغم من أنها لم تكن موجهة ضد روسيا بشكل مباشر، أثرت في مصالحها الحيوية الرئيسية.

وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت المرحلة الثانية من المنافسة الاستراتيجية الأمريكية في أوراسيا، حيث تحول تركيز الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وبدأت في المنطقة حملة لتشجيع تغيير النظام و”نشر الديمقراطية”. ودعمت الولايات المتحدة “تغييرات جذرية” في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقوقاز، ولم تتردد باستخدام القوة. وعلى الرغم من أن هذه السياسة لم تكن موجهة أيضاً ضد روسيا بشكل مباشر، إلا أنها أثرت على المصالح الروسية الحيوية.

ولّد عقدان من الضغط المستمر لدى النخب الروسية شعوراً بأنه لا يمكن تنفيذ السياسة الخارجية إلا من خلال اعتماد التنافس الاستراتيجي، بالقوة والضغط إذا لزم الأمر. ومع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، بدأت الولايات المتحدة في الابتعاد عن تنفيذ الإجراءات الإستراتيجية في أوراسيا. حدث هذا بفعل النفقات الباهظة والعواقب الاقتصادية والمحلية الكبيرة لهذه الحملات على الولايات المتحدة نفسها. وفي عام 2010، بدأت السياسة الأمريكية في أوراسيا في التحول نحو التنافس الطبيعي، فأمست أكثر انتهازية وارتكاسية، وقد يقول قائل إنها أمست كردة فعل انعكاسية. واستجابة لأحداث ما يسمى “الربيع العربي”، التي قوضت شرعية العديد من حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط، وجدت الولايات المتحدة نفسها مرغمة على العمل وسط ظروف اتسمت بعدم اليقين، وكثيراً ما كانت تناقض نفسها وأجبرت على جعل البيئة اللازمة لتحقيق مصالحها أكثر سوءاً، وكان هذا هو الحال في مصر، على سبيل المثال. لكن في ليبيا وسورية تجنبت الولايات المتحدة اتباع استراتيجية تشبه غزوها للعراق أو لأفغانستان، نظراً لمدى كلفتها وعدم فعاليتها، وليس من منطلقات إنسانية.

وفيما يخص روسيا، كان التنافس طبيعياً أيضاً. لكن وقعت خلال فترة رئاسة أوباما أهم أزمة سياسية داخلية في أوكرانيا، والتي سرعان ما أصبحت أزمة دولية. ولعبت الولايات المتحدة دوراً مهماً فيها، وأدى ذلك إلى صدام غير مسبوق مع روسيا. ومع ذلك، فإن حقيقة أن الولايات المتحدة لم تستغل الموقف من أجل عقد تحالف عسكري مع أوكرانيا، لنشر قواتها المسلحة على أراضيها، يُظهر حدود النوايا الاستراتيجية الأمريكية فيما يتعلق بتلك الدولة.

بوجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، بدأت المرحلة التالية من التنافس الاستراتيجي الأمريكي، وهذه المرة ضد الصين. ومن خلال إتباع هذه الاستراتيجية، فرضت الولايات المتحدة عقوبات تأديبية على حلفائها وأطلقت مجموعة واسعة من الحروب التجارية ضد المعارضين، وضد حلفائها أيضاً. يؤثر هذا في المصالح الروسية بشكل غير مباشر، إذ أثر مثلاً في مصير خط أنابيب السيل الشمالي2، وفرضت العقوبات على روسيا خلافاً لرغبات ترامب، وكانت نتيجة الصدمة التي تعرضت لها المؤسسة السياسية الأمريكية فيما يتعلق بانتخاب رئيس غير كفء في عام 2016.

من جانبها، لم تتبن روسيا سياسة تنافس استراتيجي ضد الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، ولو كان هذا ما جرى، لكانت روسيا الآن حاضرة بنشاط في أمريكا اللاتينية، وتوسع منطقة نفوذها وتسعى جاهدة لتغيير ميزان القوى في هذه المنطقة لصالحها. كانت الإجراءات الروسية في معظم الأحداث ارتكاسية بطبيعتها وكانت انتقاماً من العمليات السياسية التي بدأتها أو دعمتها الولايات المتحدة، وخاصة داخل حزام حدودها.

قد تنهي الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 مرحلة أخرى من التنافس الاستراتيجي الأمريكي. ومن الجائز جداً أن يدفن الرئيس الجديد الأحقاد المعروفة ويتخلى عن الموقف الأمريكي العدواني تجاه بعض خصومه. وستتاح لروسيا الفرصة لمراقبة الولايات المتحدة، التي ستنهشها المشاكل الداخلية ولن تستطيع مواجهة التحولات في مناطق أخرى من العالم.