التنمر الإلكتروني.. سلوك عدواني نحو الآخرين وتهديد وابتزاز للضحايا
“العالم بات قرية صغيرة”، جملة نسمعها كثيراً ونصدّقها لأبعد الحدود، لأن العالم فعلاً بعد شبكة الانترنت بات كذلك، لكن لم نضع في حسباننا يوماً أن “شبابيكنا” في هذه القرية ستكون مفتوحة على الجيران و”طول اليد” سيصل لأبنائنا، المقصد من مستهل الكلام ليس حرفيته بل حالات التنمر الإلكتروني التي تحصل على منصات التواصل الاجتماعي وتؤذي الروح قبل الجسد وقد تصل ببعض ضحاياها للانتحار.
تعب نفسي
جميعنا نسمع بالتنمر التقليدي الذي يحصل في المدارس والأماكن العامة، والذي يقوم فيه الأفراد بالإيذاء اللفظي أو الجسدي على الآخرين، وكانت تتمّ معالجته بالطرق العادية سواء الصلح أو التعهد في المخافر، لكن ما نشهده اليوم يحدث بشكل خفيّ من وراء الشاشات الصغيرة، ولسوء الحظ الضحايا أغلبهن من الجنس اللطيف.
بتول. م 19 عاماً قالت: لم أكن أتوقع أن تقوم صديقتي بأذيتي بهذه الطريقة، إذ وبعد خروجنا من عيد ميلاد صديقتنا فوجئت بإرسالها مقاطع فيديو على جوالي أظهر فيها بلباس الحفلة التي كانت “لمة بنات”، وأرقص وأضحك بحرية، ونحن من عائلة محافظة جداً جداً ولا يزال أبي يعيش على عاداتنا القديمة والمتعصبة، واستمرت الفتاة على مدار شهرين تهدّدني ببثها على صفحتها على الانترنت وتبتزني، إما بمنحها المال أو الكذب على أهلها بشؤونها الخاصة، حتى أُصبت بانهيار عصبي واحتجت لطبيب، وعندها فقط بحت لأمي بما حصل وتمّ حل الموضوع.
مشكلة بتول مشابهة لعدة صبايا التقيناهن كانت حالات التنمر الإلكتروني فيها تتمحور حول إفشاء الأسرار أو فضح علاقات الحب إلى جانب التقاط صور لهن بالحفلات الخاصة، وكانت تتمّ من أقرب الناس لهن، أصدقاء أو معارف، لتنتهي معظم حكايات الضحايا بانهيارات عصبية دون المقدرة على البوح بما حصل، لأن معظمهن من مجتمعات محافظة. أما الشباب ممن باحوا لنا بقصصهم، فقد كانت في مجملها خرقاً لحساباتهم الإلكترونية وإجراء محادثات مع معارفهم واستخدام ألفاظ بذيئة، إضافة لتهكير مواقع التواصل الاجتماعي للبعض ونشر صور عائلاتهم بعد استخدام تقنية الفوتو شوب!.
أنواع وأشكال
للتنمر الإلكتروني أنواع وأشكال عدة، ويلعب الأهل دوراً كبيراً في حماية أبنائهم من التعرّض له عبر إقامة علاقات صحيحة معهم، ولكنه مازال مجهولاً عند الكثيرين بسبب كتمان الأبناء خوفاً من ردة فعل العائلة. وفي هذا الصدد كان للدكتورة نهلة ياغي المدرّسة في قسم علم الاجتماع جامعة دمشق، حديث معنا، استهلته بتعريف التنمر أنه سلوك مكتسب وليس فطرياً، أي لا يولد مع الإنسان بل يكتسبه من خلال الظروف والبيئة المحيطة، بدءاً من الأسرة وانتهاءً بالمجتمع الخارجي من مدرسة ورفاق وأماكن عمل، كما أنه سلوك عدواني يمارسه الشخص مهما كانت فئته أو عمره، وبشكل متكرّر بقصد وبغيره، بوعي أو بغير وعي، ويمارسه الفرد أو مجموعة أفراد على نظرائهم بقصد الإيذاء اللفظي والجسدي والنفسي. وأشارت ياغي إلى أن التنمّر ظاهرة يمارسها الأطفال، وكانت تُسمّى سابقاً سلوك عدواني، لكن مع تقدم وتطور التكنولوجيا ودخولها كل منزل بات هناك نوع جديد يعرف بالتنمر الإلكتروني. وفرقت الدكتورة ياغي بين النوعين، فالعادي يمارسه الفرد بأي مكان ويكون واضحاً، أي بإمكان الجميع مشاهدته، أما الإلكتروني فخطورته ليس لها زمان أو مكان ويمكن للجميع مشاهدة المواقف الخطيرة والسلبية على مواقع التواصل الاجتماعي دون أي قيد، مبينة أن من يقوم بالتنمر الإلكتروني هم غالباً أشخاص لديهم خبرة بالبرمجيات وتصميم البرامج الخبيثة لإيذاء الآخرين ومضايقتهم، وله أنواع عدة كالإقصاء والهجر، أي عدم السماح لفرد بدخول مجموعة من المجموعات، أو المضايقات وإرسال رسائل عدوانية ونشر الفضيحة وإذلال الضحية علناً.
لحظ أنواعه
ويبدو أن منصات التواصل الاجتماعي فتحت الباب على مصراعيه أمام الراغبين بإلحاق الأذى، لتبدو للوهلة الأولى وكأنك في حيّك أو قريتك والبيوت مفتوحة على بعضها البعض والمراقبة هي السائدة بين الجيران. تقول ياغي: للتجسّس الإلكتروني أنواع مختلفة بدايتها المراقبة أو التجسّس عبر الانترنت، وقيام البالغين باصطياد ضحاياهم من ضمنهم الأطفال عبر طلب مقابلتهم لأغراض سيئة، كونهم قادرين على جذب الطفل بطرق ووسائل بسيطة دون تكلفة، وهناك التواصل الاجتماعي من خلال حساب الضحية وتسجيل الدخول إليه عبر الهندسة الاجتماعية أو التهكير ونشر معلومات مسيئة للشخص المقصود، إضافة للحسابات الوهمية أو البلطجة الإلكترونية وخلق تواصل مع المتنمَّر عليهم لكسب ثقتهم ومعرفة أسرارهم ثم فضحهم. أما أسباب التنمر الإلكتروني فمنها ما يتعلق بالشخص، سواء المتنمر أو الضحية، حيث قد يعاني الطرفان من نقص حاجة ما، وهناك أسباب تتعلق بمن يقوم بسلوك التنمر والبيئة المحيطة به، وهي عوامل ذاتية كاضطرابات أو إعاقة تسبّب له شعوراً بالنقص وضعف الثقة بالنفس وتقدير الذات، وبالتالي يقوم بتعويض هذا النقص بتفريغه بأذية الآخرين والإساءة لهم، فهو لا يريد لأحد أن يكون سعيداً. وركزت ياغي في كلامها على أن البيئة والظروف الاجتماعية التي تبدأ من الأسرة، أهم أسباب التنمر، فكلما كانت متوازنة كلما أنشئ طفل سوي ذو شخصية قوية، مضيفة: الخلافات والصراعات الأسرية لها تأثير سلبي على التربية خاصة في مرحلة الطفولة، لأنها تخزن داخل الطفل وتظهر في سن المراهقة الذي يعدّ أخطر مرحلة.
للأسرة دور
يبدو أن إدماج الأبناء بالمشكلات وصعوبات الحياة تودي بهم إلى الهاوية، إذ يعتبرون أنفسهم عبئاً على أهلهم، فيشعرون بتأنيب الضمير الذي يقودهم إلى أماكن لا تُحمد عقباها، وقد أشارت ياغي إلى ذلك عندما نبّهت الأهل بضرورة إبعاد الأولاد عن المشكلات، وقالت: يجب أن يعي الأهل أن الظروف الاقتصادية والسياسية والأزمات لا تؤدي إلى أي ظاهرة، بل الشخص نفسه ومدى تفهمه واحتوائه لهذه الظروف وتجاوز السلوكيات الخاطئة. وأوضحت أن إدماج الطفل والمراهق ومعايشته للظروف الاقتصادية التي تعيشها الأسرة من أخطر الأمور، لكن هذا لا ينفي من وجهة نظرها أن يكون الأبناء على علم بهذه الصعوبات، مع لحظ عدم تحميلهم عبء تلك الظروف، فالابن يحتاج لأسلوب تربية معيّن بكل مرحلة من مراحل حياته حتى يفهم الحياة وصعوباتها، وأي خلل تربوي لا يتناسب مع المرحلة العمرية تكون نتائجه السلبية لاحقة ووخيمة، فلكل مرحلة واجبات وحقوق وعلى الأهل عدم إدماج وإعطاء الطفل واجبات غير مناسبة لسلوكه أو تزويده بمعلومات خاطئة لتلافي العواقب. وأضافت الدكتورة ياغي: للأهل دور رقابي يبدأ قبل وصول الفرد لمرحلة التنمر، وعلى الأهل القيام بدورات تهتمّ بأسس التربية الصحيحة لأننا للأسف نقوم برعاية الأولاد لا تربيتهم، وهذا خلط يجب إدراكه، فالتربية تتمّ على عدة محاور والمشكلة تنحصر فيها وبالعائلة وليست بالمتنمِّر والمتنمَّر عليه فهم ضحايا.
آثار سلبية
للتنمر الإلكتروني آثاره السلبية على الضحايا، وقد أشارت ياغي إليها بصور توضح عوارض القلق والاكتئاب والعزلة واضطرابات نفسية ناجمة عن وجود سلوك معنف، وعدم السيطرة على الانفعالات عند الغضب، هذه كلها -على حدّ تعبيرها- نافذة عن ملفات ومواقف سلبية مخزنة في الداخل تدفع المتنمر للقيام بهذا السلوك، وأعراض جسدية كاضطرابات النوم والأكل والقصور الدراسي والتهرب المدرسي واضطرابات نفسية، كالانفعال الشديد والخوف والقلق وهجوم الأفكار السلبية، ليظهر دور الأهل كمنقذ، لكن يجب أن تكون الحماية سابقة وليست لاحقة. ودورهم، كما أوضحته ياغي، يجب أن يكون وقائياً، عبر إقامة جسر للتواصل مع الأبناء وفتح النقاشات دون استخدام أسلوب التوبيخ والإيذاء الجسدي واللفظي والعقوبات القاسية التي تدفعهم لعدم البوح بما يتعرّضون له، والأفضل أن يقوم الوالدان بتدريب الطفل على كيفية مواجهة الصعوبات. أما الطرق التي تمنع استمرار عملية التنمر الإلكتروني فقد بيّنتها ياغي بجملة من عمليات إلكترونية كحفظ الخصوصية وعمل حظر للشخص المزعج، وتعليم الأبناء عدم التعاطي مع الأشخاص الغرباء أو الرد على أرقام مجهولة وغيرها من عمليات الأمان على مواقع التواصل الاجتماعي، في وقت أكدت فيه ضرورة إجراء جلسات الحوار مع الأبناء لتجنّب الآثار السلبية التي تضرّ بالطفل، وما تحتاجه العائلة استشارة خبير برمجيات أو سؤال المختصين وعدم القيام أو التدخل بعلاج سلوك المتنمر إذا لم يكن هناك امتلاك لأسس معالجة هذا الموضوع، ويفضّل سؤال طبيب مختص، واقترحت تفعيل وسائل الإعلام وبرامج التوعية بكل مرحلة من المراحل التي تناسب أعمارهم، وإعداد أفلام للبالغين وندوات توعية للكبار للتعريف بأخطار التنمر الإلكتروني وعلاجه.
يجب إدراكه
الانترنت سلاح ذو حدين وعالمه واسع ومخيف رغم فائدته، والتنمر الإلكتروني أخطر أسلحته حالياً، لذلك على الوالدين مراقبة ما يشاهده أبناؤهم وإقامة علاقات صداقة متبادلة، فالأهل هم الحاضن والبيئة الآمنة لهم، وإذا فقد الطفل أو المراهق ثقته بوالديه فقد تواصله مع العالم ووقع فريسة التنمر الإلكتروني والتقليدي، وربما انتهى به الأمر للانحراف والجريمة ربما الموت.
نجوى عيدة