غاباتنا لن تعود قبل 100 عام.. وما من حكومة وفرت طائرة واحدة لإخماد حرائقها
“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
نأمل أن تكون المبادرة الأولى لمجلس الشعب الجديد في جلسته القادمة تشكيل لجنة تقص للحقائق حول الحرائق المريعة التي قضت على مساحات واسعة من غاباتنا ومحمياتنا الطبيعية، فقد آن الآوان لمحاسبة الفاسدين والمقصرين المتسببين بحماية ثروتنا الحراجية التي لا تقدر بأي ثمن مادي. ومن المهم جداً أن تخرج اللجنة بنتائج ملموسة من أبرزها تحديد المسؤولين – بالأسماء والوزارات – الذين منعوا أو رفضوا، خلال العقود الثلاثة الماضية، تأمين المستلزمات الضرورية لمكافحة الحرائق، فغاباتنا ومحمياتنا التي تسببوا بحرقها، قصداً أو تقصيراً، لن تعود قبل 100 عام! ولكن، هل سيفلت هؤلاء من الحساب والعقاب، كما جرت العادة؟
لا مفاجأت!
لن يصدق أي عاقل أن الجهات المسؤولة فوجئت بالحرائق.. قد تكون فوجئت بعددها وبمدى انتشارها والتهامها مساحات واسعة هذا العام، لكنها قطعاً تنتظر نشوب الحرائق في كل صيف، وتحديداً في شهر أيلول الذي يُعرف بشهر الحرائق.
ولم نتوقع أن تكون هذه الجهات، وبخاصة التي تتبع لوزارتي الزراعة والإدارة المحلية، مستعدة لمكافحة الحرائق، لاسيما باتخاذ الإجراءات التي تحد منها، أو تأمين مستلزمات مكافحتها بالحد الأقصى. ويعرف الحميع أن الحرائق تنشب في معظم دول العالم، ولكن هناك فارقاً بين من يكافحها بالأقوال، ومن يكافحها بالأفعال!
وليس مطلوباً أن يهرع المسؤولون إلى مواقع الحرائق، أو “ألا ينامو الليل” كي يتابعون مجريات مكافحتها، بل أن يكون لديهم خطة دائمة لحماية الغابات والمحميات من خلال تأمين المستلزمات الفنية والبشرية، وهو ما لم تفعله أي حكومة.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أنجزت عدة تحقيقات حول مسلسل الحرائق التي اندلعت في غابات اللاذقية، نشرتها في جريدة البعث، وتضمنت مقترحات للجهات المعنية بالمكافحة من أبرزها: طائرات لمكافحة الحرائق في المواقع التي لا تصلها فرق الإطفاء، وشق طرق زراعية وخطوط نارية كافية وسط الغابات مزودة على جانبيها بفتحات مياه لتتمكن أفواج اللدفاع المدني من تعبئة شاحنات إطفاء الحرائق، وزيادة عدد أبراج المراقبة، وتأمين مستلزمات أفواج الإطفاء. ومن المستغرب أن تتقاعس جميع الحكومات السابقة عن تأمين مستلزمات مكافحة الحرائق، ولم تؤمن حتى طائرة واحدة مخصصة لإطفاء النيران التي تلتهم الغابات دون أي عائق يحد من انتشارها بسرعة.
المكافحة بردات الفعل!
وأمام هذا الواقع المؤلم والمرير، من الطبيعي أن تكافح الجهات المسؤولة الحرائق بردات الفعل، بل نراها تهرع إلى أماكن الحرائق، وكأنّ حضورها سيُسرع بإخماد النيران فوراً.
ولا تبخل الجهات المسؤولة بإطلاق الوعود بأنها ستؤمن مستقبلاً المستلزمات المناسبة للمكافحة ولمنع نشوب حرائق جديدة، لكن ما أن تخمد النيران حتى يتبدد كلامها في الهواء وكأنّه لم يكن هناك إي حريق، أو انها تستند إلى فرضية أنه لن ينشب حريق جديد، طالما هي في موقع المسؤولية. أما أغرب التصريحات فهي تلك التي تجزم بأن الجهات المعنية ستعيد تحريج جميع المناطق المحروقة، وكأنّه يمكن لوزارة الزراعة، أو غيرها من الجهات المحلية، أن تعيد الغابات والمحميات الطبيعية في عام أوعامين!
ولنتذكر أن هذه الجهات وغيرها سبق وأن جزمت بأنها ستحوّل جبل قاسيون إلى غابة لا نظير لها خلال بضع سنين، وها قد مضى أكثر من ثلاثين عاماً ولم يتحقق الوعد أوالجزم إلا جزئياً، أي بالحد الأدنى من الأشجار، فما بالنا بآلاف الهكتارات التي تحولت إلى فحم أسود خلال ساعات، ولا يمكن إعادتها ولو بعد 500 عام إلا بمعجزة؟
وإذا كانت الجهات المسؤولة “استمرأت” المعالجة بردات الفعل في قضايا خدمية يومية، فالأمر مختلف تماماً في الغابات والمحميات، فهذه لن تعود بقرار يتخذه محلس الوزراء، ولا بتعميم من وزير. وكما يقال “الفاس وقع بالراس”، والأمر الوحيد المتاح هو محاسبة الفاسدين والمقصرين الذين منعوا تأمين مستلزمات مكافحة الحرائق.. فهل يفعلها مجل الشعب في دورته الثالثة؟
أرقام مذهلة
ومن تابع مسلسل الحرائق، الذي اندلع من السويداء، مروراً بحماة حتى اللاذقية، سيستنتج بسهولة أن سورية خسرت مساحات واسعة من غاباتها وحراجها البكر ومحمياتها الطبيعية بسبب التقاعس عن تأمين، ولو الحد الأدنى من مستلزمات مكافحة الحرائق فور نشوبها، وبمنع اندلاع حرائق أكثر من الحد الطبيعي، أي الخارج عن التحكم!
وحسب المهندس عبد الرحمن قرنفلة، المستشار الفني في اتحاد غرف الزراعة السورية، فإن التعامل مع الحريق لا يزال يتخذ شكل رد فعل انعكاسي، وليس نهجاً استباقياً. وعلى الرغم من الأدلة المتزايدة على أن تكنولوجيا التحكم في الحرائق قد فشلت بشكل واضح في حل “مشكلة” الحريق، إلا أن من المؤكد أن معظم حرائق الغابات يسببها البشر، لأسباب ليس أقلها أنها أداة رخيصة وبسيطة للاستيلاء على الأراضي، وهو الخيار الوحيد للناس الأكثر فقراً، أو أصحاب الحيازات الصغيرة المحيطين بالغابة، حتى أصبحت أسباباً غير طبيعية (1% إلى 5% فقط من حرائق بلدان البحر الأبيض المتوسط تعود لأسباب طبيعية).
وعود حديدة
ولاشك أن الحرائق فاجأت وزير الزراعة الجديد المهندس محمد حسان قطنا، وهو بالكاد باشر عمله قبل أيام قليلة من اندلاعها، لكنه تابع الحرائق التي اندلعت في السنوات السابقة، ولعله ذكر أمام معارفه حينها الإجراءات والمستلزمات التي يجب توفرها لمكافحة الحرائق وحماية الغابات والحراج والمحميات من التعديات. ولم نستغرب أن يهرع الوزير الجديد إلى مواقع حرائق الغابات، بل نراها فرصة كي يكتشف ميدانياً النقص الكبير في المعدات والمستلزمات الفنية والبشرية اللازمة لمكافحة الحرائق.
كما لم نستغرب أن يعلن وزير الزراعة من موقع الحرائق: سنعاود ترميم وتشجير كل المساحات التي طالتها الحرائق وسنتخذ إجراءات لعدم تكرار ما حصل. ولقد اندلعت حرائق جديدة بعد تصرح الوزير، لكن تبقى العبرة، في المستقبل القريب، أي بتحويل الوعود إلى حقائق على الأرض.
أبطال في مواجهة النار
ورغم السلبيات التي أشرنا إليها في موضوع الحرائق، لا يمكن أن نتجاهل الدور البطولي لفرق الإطفاء وخفراء الحراج، فهم أبطال حقيقيون يواجهون النار بخراطيمهم وأجسادهم وبمستلزمات متواضعة جداً متناسين أن أصواتهم بُحت، وهم يطالبون رؤسائهم بتأمين مستلزمات متطورة لمكافحة حرائق الغابات!
وبما أن وزير الزراعة الجديد اكتشف ميدانياً أن وعورة المنطقة وعدم وجود خطوط نار في الغابات والخراج حدت من قدرة فرق الإطفاء على السيطرة على الحرائق، فهل سيلحظ في خطط الوزارة للأعوام القادمة الاعتمادات الكافية بالتنسيق مع زميله وزير الإدارة المحلية لشق ما تحتاجه الغابات والحراج من طرق زراعية وخطوط نار، وآبار لتزويد سيارات الإطفاء بالمياه؟ إن طريقاً نارياً واحداً كفيل بإنقاذ عشرات الدونمات، ليس لأنه يساعد بإخماد الحريق فقط، بل لأنه يمنع أيضاً امتداد الحريق إلى مساحات مجاورة.
النيران تصل لرئة الساحل
ولعل الخسارة الأكبر التي تسببت بها الحرائق وصول نيرانها لرئة الساحل، محمية الشوح والأرز في صلنفة، المصنفة أولى في المنطقة لتنوعها الطبيعي والبيئي. وتبلع مساحة المحمية الضخمة 1350 هكتاراً، تمتد بين محافظتي اللاذقية وحماة، وهو الحريق الأول والأضخم الذي يصيب المحمية منذ أكثر من عشر سنوات. وحسب مديرية الحراج، كان الوضع كارثياً بمعنى الكلمة في السفح الشرقي، لأن النيران تأتي على النظام البيئي بشكل كامل من نباتات وحيوانات وتدمره بالكامل.
وتُعد محمية صلنفة آخر المواطن الأصلية لأشجار الشوح والأرز في منطقة حوض البحر المتوسط، وتتمتع بتنوع بيولوجي، إذ يقدر عدد الأنواع النباتية المهمة والفريدة فيها بنحو 142 نوعاً، كما يعيش فيها 65 نوعاً حيوانياً، إضافة إلى وجود أنواع من الطيور النادرة، وتتركز أشجارها على ارتفاع يتراوح ما بين 1250 إلى 1400 متر فوق سطح البحر.
المناطق وعرة
وفي كل مرة يندلع فيها حريق لايمكن السيطرة عليه سريعا، تبرز الحجة: المنطقة وعرة لا يمكن وصول الآليات إليها، فهل هذا التبرير صحيح؟
إنه صحيح، لكنه يفضح التقصير، فدول العالم تتعامل مع المناطق الوعرة بالطائرات.. ترى، كم طائرة لإطفاء الحرائق المندلعة في الجبال الوعرة وفرتها الحكومات السابقة؟ وإذا كانت الطائرات عصية على الشراء، فماذا عن الطرق الحراجية وخطوط النار؟ هل هي أيضاً تحتاج إلى اعتمادات يستحيل تأمينها؟ أم ماذا؟
ولفتنا تصريحات لبعض المسؤولين تؤكد أن “مختلف الجهات الرسمية في المحافظات اتخذت كل الإجراءات لمكافحة الحرائق، كما تم إمدادها بفرق إطفاء من باقي المحافظات، ما ساهم في محاصرة الحرائق”.. ترى، ما طبيعة هذه الإجراءات، إن كانت الطائرات معدومة، والطرق الزراعية وخطوط النار غير موجودة في المناطق الوعرة؟
وعندما ينشب 54 حريقاً في أقل من أسبوع، فهذا مؤشر على جسامة المهام الملقاة على عاتق فوج الإطفاء من جهة، وعلى تقصير الجهات المسؤولة عن تأمين مستلزمات رحال الإطفاء من جهة أخرى!
أخيراً، ننتظر أن يقوم مجلس الشعب بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق تحاسب المسوؤلين والمتسببين الحقيقيين باستمرار مسلسل الحرائق في سورية، على مدى أكثر من ثلاثين عاماً!