شهريار الموسيقا العربية.. حضور لن ينتهي
“البعث الأسبوعية” ــ تمّام علي بركات
العود في التراث الموسيقي العربي أتم آلة استخرجها الحكماء من حيث جمعها بين دقة العلم وأسرار الفن. وكان للعود دور حاسم في تغيير العقلية الموسيقية شرقاً وغرباً لما جلبه معه من إمكانيات جديدة، أهمها تحديد مواضع النغم المثبتة بواسطة المفاتيح، وهو ما يعد كسباً عظيماً لموسيقيي أوروبا الذين كان استعمالهم يقتصر على الوتريات المفتوحة ما جعل آذانهم بعيدة عن الصوت الصحيح.
وقد مكنت القدرة التأليفية الفائقة للعود من التطور والازدهار داخل وحدة جمالية متكاملة، لتستوعب على مرّ العصور مختلف الأنماط الفنية المكونة للثقافة العربية المنتشرة على رقعة هائلة الامتداد من غير أن يسعى إلى طمس شخصيتها، بل نراه يفتح لها تاريخ العطاء والإبداع في سياق خط جمالي ناظم، وموحد لها جميعاً.
موسيقاه شغلت الباحثين
من هذا المنطلق، اعتنى به الفلاسفة العرب وجعلوه يحتل صفحات طويلة من مؤلفاتهم، ولعل من أمتعها ما جاء في كتابات الكندي وإخوان الصفا، والفارابي وابن الطحان، غير أن المسائل المتعلقة بتسوية الأوتار، ومواضع الدساستين قد حظيت بالاهتمام الأوسع، وذلك لأهميتها في تحديد النسب الصوتية للنغمات التي هي بمثابة حروف الهجاء في لغة الموسيقى، فمنها يتألف السلم الموسيقي، وعليها تبنى الألحان.
عرف تاريخ العود منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تحولات جذرية بفضل التقدم الملحوظ الذي شهده علم الآثار الموسيقي واستغلاله للوسائل التقنية والإعلامية الحديثة، لتشهد ستينيات القرن الفائت نقاشات مختلفة حول تركيب النماذج الأصلية لآلة العود التي عثر عليها في العراق ومصر وفق منهج علمي دقيق واهتمام بالنواحي التاريخية للآلات الموسيقية خاصة بالاعتماد على اللغتين المسمارية والهيروغليفية.
قصائد موزونة على خشب الورد
تتخذ آلة العود أصنافاً تقليدية متنوعة لها أساليبها وطرق أدائها، أهمها: العود المشرقي المصطلح تسميته بالعود الشامي أو المصري، والعود المغربي الذي يذكر في الكتب بأسماء متنوعه أبرزها “الرمال” و”النقلاب” و”الصويري”، إضافة إلى العود القنبوس أو الطربي كما يسمى في شبه الجزيرة العربية، حيث تصدرت آلة العود حوارات ثقافية كان للمدرسة العربية الدور الأبرز فيها. ولعبت مدرسة بغداد للعود بين أواخر الثلاثينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الفائت على إبراز تغييرات واستحداثات على صناعة هذه الآلة، وهو ما صار يعرف بالعود العراقي الذي أدخل تغييرات على تسوية أوتار الآلة وكيفية استخدام الأصابع والوضعيات والريشة نتج عنها أسلوب عزف جديد يسعى إلى استغلال أوسع لإمكانيات العود والتعامل معها كآلة مستقلة قادرة على عزف انفرادي يجمع بين التطريب والوصف والتأمل.
شجن الرافدين
ولا يخفى في هذا المضمار الدور المهم الذي لعبته مدرسة بغداد للعود حيث شهدت الآلة تغييرات جذرية على المستوى الصناعي، وكذلك من الناحيتين العملية والتقنية.
ويعود العود العراقي بحساسيته وشجنه إلى أسلوب تقسيم الكندي أوتار العود حسب الطاقات الأربعة للجسد، فالوتر الأول المسمى بالزير يشبه الصفراء والوتر المثنى يشكل الدم، والمثلث يشكل بياض البلغم، والرابع “البم” يسمى سواد السوداء، كما يرد ذلك إلى أرباع البروج وأرباع القمر وأركان العناصر ومهب الرياح وفصول السنة، وأرباع الشهر وأرباع اليوم، وقوى النفس المنبعثة في الرأس، وتظهر لنا المنمنمات بأجوائها الاجتماعية والفنية السائدة في فترات متتالية من تاريخ الحضارة العربية الشكل المميز للعود، أو ما يسمى بالرباب أو الطنبور أو الشاهرود، أو العود الكبير الحجم، والذي امتد للعصور الحديثة ليكون العنصر الطاغي في التخت الشرقي، وبروز أسماء كبيرة في العزف والتلحين عليها، أهمهم: فريد الأطرش، محمد عبد الوهاب، عمر نقشبندي، قاسم الأخفش، الطاهر غرسة، محمود الكويتي، عبد الرب إدريس، بهجت الرحال، محمد القصبجي، منير بشير، جميل بشير، وغيرهم.
إنطاق الخشب بالأسرار
وقد شهد العود سلسلة من التغييرات والتحسينات بلغت ذروتها مع القرن التاسع الميلادي، بعد أن ازدهرت مشاهد الطرب، وأخذت مكان الصدارة بين المناظر التصويرية التي تناولها المصورون العرب الأوائل في المخطوطات وعلى التحف التطبيقية. ومن أبرز هذه التحسينات تطوير العنق وتوسيع صندوق الصوت، وانفصال صنعهما، حيث كانا من قبل ينحتان من القطعة نفسها؛ هذا مع تحسين نوعية الخشب، والأوتار والريشة، والاعتناء بتطوير أسلوب العزف وتقنياته.
وتفنن المختصون في صناعة الأعواد من تهيئة القالب، وصناعة الأجزاء ثم تركيبها، وصولاً إلى صبغ الآلة ووضع المفاتيح، وشد الأوتار، وتنوعت تبعاً لذلك المواد وكذلك الآلات المستعملة التي ما فتئت تتطور مع تقدم التقنيات الحديثة، حتى صارت قطع العود تقارب الأربعين قطعةً تزيد أو تقل حسب رغبة الصانع، ونوعية الآلة المزمع إنجازها، فكل قطعة منها تحتاج إلى مهارة خاصة من نحت وتقويس، وتخريم وتلصيق، وصقل ذلك مع توخي الدقة في القياس والتناسب، وإخمام الذوق السليم، والإحساس المرهف، والتحلي بالصبر، والإقدام على العمل في تكاملٍ تام بين حذق الصنعة، أصالة الفن.
وأجزاء العود هي على التوالي: الظهر (الصندوق الصوتي) وهو بيت الموسيقى، والصدر أو الوجه وهو مرآة الصوت، والشماسي (نوافذ على اللحن) وهي متنوعة وتكون في العادة مشغولة على شكل وردة مليئة بالزخارف، والمشط (الكرسي) وهو عبارة عن قطعة من الخشب مستطيلة على شكل شبه منحرف يلصق على آخر وجه العود، وهناك الرقبة (الزند)، وحاملة المفاتيح وهي عبارة عن قطعة من الخشب شكلها هندسي مقوس قليلاً تثقب خمسة أو ستة ثقوب لوضع المفاتيح. والمفاتيح وهي عصافير النغم الصريح وهي قطع صغيرة تثقب لمرور الوتر، ويتراوح عددها بين عشرة إلى اثني عشر مفتاحاً. وهناك الأنف وهو قطعة صغيرة رقيقة فيها تحزيزات مقابلة لعدد الثقوب الموجودة، لتسحب عليها الأوتار. وأخيراً الريشة والأوتار.
ولا يمكن الإحاطة التامة بهذه الآلة العجيبة التي فتنت أسماع الذواقة، لكن من الأهمية بمكان أن نعرف أن العود هو خلاصة آلاف السنين من البحث والسعي العلمي والفني معاً للوصول إلى صياغة آلة ضمت إليها تراث الشرق، بأصواته وخزائن مكنوناته، وكنوز الفن الأصيل الذي تعلق، وما زال، بمهارة الصانع ورغبته في وصال الجمال أينما وجد.