بروباغندا كورونا.. الحجر والقناع وتواطؤ الأطباء وشركات الأدوية لخلق مناخ مروع
“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي
لفهم البروباغندا الفيروسية الحالية التي تسبب بها وباء كورونا، من الضرورة بمكان الإشارة إلى البروباغندا الحربية، السلاح الكلاسيكي القديم الجديد الذي استخدم عبر التاريخ من قبل القوى الاستعمارية المختلفة بهدف التلقين الأيديولوجي، والتلاعب النفسي.
وإذا كانت هناك مقارنة تاريخية، فهي بين الأزمة الصحية والاقتصادية العالمية الراهنة والحرب العالمية الأولى، حيث تتميز كلتاهما بالاستخدام المكثف للبروباغندا، وكلتاهما عرضتا لحملة كبيرة من الأكاذيب والتضليل المميت، كما تتسم كلتاهما بمناخات “نهاية العالم”، والاضطرابات السياسية، والثورات الاجتماعية، ونهاية الإمبراطوريات، وظهور الشمولية.
ففي فرنسا، لم يتوان ايمانويل ماكرون، كغيره من الرؤساء الأوربيين الآخرين، عن استخدام البروباغندا، في بداية تفشي الوباء، لتبرير الحجر في السجون والمنازل وتطبيق الإجراءات المقيدة للحريات بإعلانه العسكري: “نحن في حالة حرب!”. ومن المفارقات أن الهيئة الصحية التابعة للدولة، والتي كان من المفترض أن تكافح انتشار الفيروس، أُطلق عليها اسم “مجلس الدفاع”. وفي غالبية البلدان، فإن الإدارة الفوضوية المتعمدة لأزمة فيروس كورونا كانت أقرب إلى عملية أمنية وعسكرية من كونها عملية للمداخلة الطبية والصحية.
أيَاً كان الأمر، فإن الإدارة الدعائية للأزمة الصحية الراهنة تذكر بالتلاعب النفسي الذي كان المواطنون ضحايا له خلال الحرب العالمية الأولى، لتبرير وإضفاء الشرعية على النظام العسكري الذي فرض عليهم، وحرمانهم تماماً من حرياتهم، ودمجهم الشمولي في اقتصاد الحرب، وهي إجراءات تم فرضها بذريعة وجود تهديد معاد “مميت” يفترض أن يعرض وطنهم للخطر.
تاريخياً، تم تظهير الحرب العالمية الأولى من خلال استخدام بروباغندا ذات بعد صناعي لا مثيل له؛ وللمرة الأولى في التاريخ، وفي محاولة لإسكات أية أصوات نشاز والاستفادة من الحالة الذهنية الجماعية، ستسعى الدولة إلى اختزال جميع السكان في إطار مشروعها للسيطرة الاجتماعية، ولا سيما من حلال الصحافة، وستشيع الرصد الكامل للمعلومات من خلال الرقابة الشاملة. وبالمثل، سيتم إسكات الأحزاب السياسية، وستضع التشكيلات السياسية خلافاتها جانباً من أجل العمل في خدمة الحرب، ليكون ذلك بداية عصر السيطرة على الفكر المعتقل والمقيد.
بروباغندا عامة
في العام 1914، كان من الواضح أن الغرض الرئيسي من الدعاية الرسمية كان تجميع الطاقات لنقلها في اتجاه واحد: ميدان الحرب من أجل إلحاق هزيمة ساحقة بالدولة الأجنبية التي تم تصنيفها على أنها عدو اليوم. وفي العام 2020، مع دعاية تم تنفيذها بمهارة تحت ستار محاربة فيروس غير مرئي، فإن العدو الحقيقي، في الواقع المستهدف، يتربص داخل البلاد: إنها الاحتجاجات الاجتماعية. ذلك أن الهدف السياسي هو كبح جماح فيروسات الثورات الشعبية، ووقف مصادر العدوى والاحتجاجات الاجتماعية بذريعة مواجهة وباء كورونا. وعدم كبح خطر الوباء، حليفهم الحالي المفضل، في الحرب التي يخوضونها ضد الشعوب المضطهدة.
في عام 1914، تعين على جميع السكان المشاركة مباشرة في المجهود الحربي، وكان عليهم أن يقتنعوا بأن الحرب كانت عادلة وضرورية، فيما تعين على الدولة أن تدير آلة التلاعب النفسي، أو بالأحرى أداة الكذب: البروباغندا. وفي عام 2020، تعين على السكان، وتحت وطأة تهديد الإرهاب الفيروسي، المشاركة في جهود إعادة التشكيل الاقتصادي لإقامة “نظام عالمي جديد” بأقل عدد من الرجال والنساء في ساحة الحرب الاقتصادية الممولة على أساس الاستبداد العالمي.
بالطبع، لم يقتصر استخدام الدعاية على الحرب العالمية الأولى فقط، ولكن تلك كانت المرة الأولى في التاريخ التي تتخذ فيها الدعاية بُعداً جماعياً وعلمياً. ومنذ ذلك الوقت، كان من المقرر دمج الدعاية في أشكال الحكومة كوسيلة لإخضاع الشعوب والانحراف السياسي. ويمكن تعريف الدعاية على أنها تلفيق المعلومات الإيديولوجية من قبل دولة ما لغرض التلقين الذهني وغسل الأدمغة. وقد استخدم النظامان النازي والستاليني أداة التسميم النفسي هذه على نطاق واسع. ومع ذلك، فقد استخدم الغرب “الديمقراطي” الدعاية ببراعة في صقل الأدب الديكتاتوري المخملي، واستغلها على أكمل وجه بتقنيات أكثر تطوراً مع موافقة السكان الذليلة بعدما تم إقناعهم بالعيش في بلد حر.
تقنيات الدعاية التي طورتها الدولة خلال الحرب العالمية الأولى، والتي تم إتقانها خلال الحرب العالمية الثانية، سيتم تحويلها لاحقاً إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما من خلال الإعلان والمراقبة الإلكترونية. ومنذ ذلك الحين، في الديمقراطيات الشمولية في الغرب، تم دمج الدعاية في جميع مكونات المجتمع، لتغدو الدعاية منتشرة في كل مكان في الحياة اليومية، خاصة في السياسة والاقتصاد، لدرجة أنها تتصرف بشكل غير مرئي تقريباً، وبشكل طبيعي، مثل فيروس عقائدي، لا أعراض له، تم نشره في الجسم الاجتماعي الملوث بالفعل من قبل أشكال أخرى من الميكروبات الإيديولوجية التي طبعت الدماغ منذ الطفولة.
في عام 1928، كتب إدوارد بيرنايز، مؤسس الدعاية السياسية وريادة الأعمال في كتابه “بروباغندا”: “التلاعب الماهر والواعي بعادات وآراء الجماهير هو مكون رئيسي للمجتمع الديمقراطي. أولئك الذين يتلاعبون بهذه الآلية السرية للمجتمع يشكلون حكومة غير مرئية وهي القوة الحاكمة الحقيقية لمجتمعنا. إذ تميل الحكومة غير المرئية لأن تكون في أيدي قلة بسبب النفقات الناتجة عن التلاعب بالآلة الاجتماعية التي تتحكم في آراء وعادات الشعوب”.
حقيقةً، كما ذكر بيرنايز، يتم التلاعب سراً من قبل “حكومة غير مرئية”، إذ من الواضح أن بيرنايز كان يشير إلى البرجوازية الكبيرة، حتى إلى رأس المال الكبير، ولكن قبل كل شيء، ما يجب التأكيد عليه هو أن هذا التلاعب بالرأي لا يتم بأمر من قبل أفراد مجتمعين معاً في محافل ماسونية أو في لجان سرية من المتآمرين الدوليين، وإنما من خلال القوانين الحتمية الضرورية لنمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية الرأسمالية.
واقع الأمر، أن كتاب بيرنايز، الذي كتب عام 1928، مستوحى من تجربته كداعية خلال الحرب العالمية الأولى. خلال هذه الحرب، ولأول مرة في التاريخ، تم استخدام الدعاية على نطاق صناعي. وكانت هذه أول حرب شاملة في التاريخ، وقد حشدت وحدات عسكرية ضخمة، لم يسبق في التاريخ أن كان هناك مثل هذا العدد الكبير من السكان الذكور المجندين في الجيوش. وفي الوقت الراهن، 2020، تم حجر ما بين 3 إلى 4 مليارات شخص في العالم، وعزلهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، لمدة ثلاثة أشهر تقريباً، فيما كان هناك مئات الملايين الذين أُلقي بهم في جحيم البطالة. وبالمثل، فإن هذه الحرب الشاملة للإبادة الجماعية كانت نتيجة طبيعية لإدماج السكان المدنيين بالكامل في المجهود الحربي، لا سيما من خلال إنتاج المعدات العسكرية وتجنيد النساء في المصانع والمستشفيات. ولضمان مثل هذه التعبئة الرائعة، وتبرير الحرب، كان على الدولة أن تلجأ إلى حملة دعائية ذات بعد صناعي.
وعليه، فإن البروباغندا هي تشكيل الرأي بأي وسيلة ممكنة، بالاعتماد على وسائل الاتصال التي أطلق عليها إدوارد بيرنايز اسم “مصنع القبول”. في عام 2020، وبفضل الأزمة الصحية والاقتصادية، فإن مصنع القبول هذا هو الوحيد الذي لم يعرف الأزمة: إنه يعمل بأقصى سرعة فاشية.
ومن المفارقات أن إدوارد بيرنايز كان قد شارك، إلى جانب الرئيس الأمريكي ويلسون، في لجنة كريل التي اجتمعت لإقناع الرأي العام الأمريكي بصحة وضرورة مشاركة الولايات المتحدة في الحرب. في النهاية، ومن خلال الدعاية، تمكنت لجنة كريل من إقناع الشعب الأمريكي بالدخول في الحرب العالمية الأولى. وليس من قبيل الصدفة أن تتشابه مشاركة بيرنايز مع اللجان العلمية الحالية الملوثة بتورط الأطباء الفيروسيين الفاسدين العاملين في المجموعات الصيدلانية “بيغ فارما”. توصياتهم الطبية الاحترازية لا تختلف عن نصائح الإبادة الجماعية التي أطلقها السياسيون الغربيون في زمن الحرب العالمية الأولى، والتي تدعو السكان لارتداء زي الحرب بشكل إلزامي، لحماية أنفسهم من العدو المزعوم، وفقاً للخطاب الدعائي المستخدم في أوقات الحرب، من أجل الربح الكبير لمصنعي الأسلحة وفائدة الطبقات الحاكمة. واليوم ينسحب هذا الأمر على شركة “بيغ فارما”، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والإمبراطوريات المالية.
تجدر الإشارة إلى أن إدوارد بيرنايز برز على الساحة ليس فقط في ميدان الحرب، ولكن أيضاً في المجال القتالي للاقتصاد الرأسمالي. الحياة المهنية لهذا الأمريكي النمساوي لم تكن نمطية على الإطلاق. ففي العشرينيات من القرن الماضي، عمل في العديد من الشركات، بما في ذلك التسويق لعلامة تجارية من لحم الخنزير المقدد. هذه المرة، بدلاً من استخدام مواهبه كداعية دعائي لتمجيد فضائل لحم الخنزير المقدد، فضل بيرنايز تجنيد عشرات الأطباء الذين سيوصون الأمريكيين بتناول وجبة فطور شهية كل صباح، ويفضل أن يكون ذلك مع البيض ولحم الخنزير المقدد. اليوم، يمدح الأطباء المعينون من قبل الدولة فضائل الحجر في المنازل، وارتداء القناع في الخارج على الرغم من عدم فعاليته، وهم متواطئون مع حكوماتهم في السياسة المندفعة للتدمير النفسي للإبادة الجماعية من خلال خلق مناخ مروع.
بشكل عام، من وجهة نظر بيرنايز، فإن البروباغندا هي أفضل أداة أيديولوجية للتأثير على الحشود من خلال التأثير والتلاعب بمشاعرهم وتحريك غرائزهم. مهمة الدعاية ليست التلاعب بالعقل الواعي، بل التلاعب باللاوعي. فالعقلية الجماعية لا يحكمها الفكر العقلاني، بل العاطفة والنبضات والعواطف.
كما أن أغراض البروباغاندا لا تتلخص في الغرس والدعاية، بل إن الدافع الرئيسي للدعاية هو إخفاء الدوافع الحقيقية لعملية سياسية أو اقتصادية أو حكومية أو دينية، بحيث تستمر الدعاية في التقدم المقنع، والأيدي المغلفة بالقفازات حتى لا تترك بصمات مذنبة مرئية، والجسم المؤسسي محمي بالدروع لضمان حماية ظهره، ومباني السجون جاهزة لتحل محل مكاتب التلقين الفاشلة وتجميل معارضة مشبوهة.
كيف تقنع ملايين الرجال بالذهاب والتضحية بأرواحهم في ميدان الحرب العدوانية، إن لم يكن باستخدام سلاح الدعاية الذي يهدف إلى إخفاء الدوافع الخبيثة. كيف تقنع المليارات من الأفراد بقبول الحجر القاتل، والقيود على حرياتهم، والتضحيات الاجتماعية، والمجازر الاقتصادية، إن لم يكن باللجوء إلى حملة دعائية وإعلامية تهدف إلى إخفاء الدوافع الحقيقية للإدارة المروعة للأزمة الصحية العالمية الراهنة: خلق مناخ من الذهان والاستغراب لتبرير وإضفاء الشرعية على إعادة التشكيل الاستبدادية للاقتصاد على خلفية عسكرة المجتمع.
إذا كان الإرهاب يهدف إلى سحق أجساد البشر، فإن البروباغندا تهدف إلى تشكيل وإرهاب العقول. إن نمطي الإدارة والحكم التكميليين متأصلان في الحضارة الرأسمالية الشمولية والمنحلة.