مجلة البعث الأسبوعية

حـالـنـا الـثـقـافـي

“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس

إذا كانت الثقافة استيعاباً وفهمأ لجميع الأيديولوجيات التي انتهجها الإنسان في فترات زمنية سابقة، ومن ثم صقلها ووظفها بما يخدم قضاياه وواقعه، مع مراعاة خصوصية كل مجتمع، وكل مرحلة، فإن من الضروري أن يكون للثقافة معادل موضوعي هو المثقف الذي يجب أن يكون مكتسباً لجزء كبير من هذه الثقافة، لتؤثر في سلوكه تأثيراً إيجابياً؛ وهنا أيضاً تتعدد وجهات النظر في تعريف المثقف، والتي تتوافق كثيراً مع تعريف الثقافة بأنه إنسان حضاري يدرك معنى الإنسانية ويحترمها، ويتعامل مع الحياة بعلمية وموضوعية، ويحترم آراء الآخرين، ويوظف ثقافته للبحث عن دوافع الآخر للاختلاف، واحترام هذا الاختلاف، لا أن يكون سبباً في إلغاء الآخر.

وإذا طابقنا ما بين الثقافة كمفهوم وبين ممارستها الحياتية في واقعنا الراهن، نرى أن هناك الكثير من الذين لا يحملون منها إلا اسمها، لأنهم لم يتمثلوا في ممارستهم للثقافة الأخلاقيات التي تمنحهم هذا اللقب؛ وتأكيداً على ما أوردنا حول الدور الثقافي الذي يؤديه المثقف في نشر الوعي وتوافق الفكر مع السلوك، من المؤسف أن نرى أن الثقافة تعيش أزمة حقيقية بسبب وجود المتطفلين عليها – وما أكثرهم!! – فإذا عدنا بالتاريخ إلى النصف الثاني من القرن الماضي، وحتى نهايته، نلحظ اختلافاً كبيراً بين المثقفين في ذلك الزمن عن مثقفينا الآن – حتى لو اختلفت معطيات الثقافة بين الأجيال – فالمرء يجهد كثيراً في العثور على شخصيات تحمل مصداقية الثقافة وتجسدها قولاً وفعلاً، فكم من مثقف في موقع المسؤولية نراه في سلوكه يوظف ثقافته لخدمة مصالحه ومكاسبه، وينطلق بتقييمه للثقافة من نظرته هو فقط. والحال ذاته مع مثقف يتمثل ثقافة الشعر التي يفترض أنها تسمو بروحه بعيداً عن صغائر الأمور، لكننا نرى شعره ينضح بالممالأة، وعند أول فرصة تتاح له يسعى لاقتناصها، ولو كانت على حساب أقرب الناس إليه، وهؤلاء بدل أن يطلوا على مجتمعهم من نوافذ ثقافية تحمل الغنى والمعرفة نراهم يغلقون كل النوافذ حتى لا يروا حقيقة ثقافتهم التي تحتاج للمراجعة والوقفة مع الذات لتصحيح مسارها.

وفي نظرة على مشهدنا الثقافي الحالي، نرى كثيراً من نماذج المثقفين يشبهون برؤيتهم للثقافة “ثياب العيرة”، من يرتديها يحاول فرض وجهة نظره وثقافته على الآخرين، معادياً كل من يخالفه، متجاهلاً حقيقة أن ثقافته كثيابه التي يرتديها، وهؤلاء متطفلون على الثقافة الحقيقية التي تتمثل بالتواضع والحوار الراقي الذي ينم عن تمثل هذا الشخص لهذه الأفكار كممارسة حياتية، واحترام لثقافة الآخر وقبول للاختلاف كحالة صحية غير إقصائية، ولعل “الفضاء الأزرق” أصبح منبراً لكثير من مثقفي وإعلاميي هذا الزمن الذين لا يرون في المشهد إلا أنفسهم، فيصولون ويجولون براحتهم، يشتمون هذا ويكيلون الاتهامات لذاك، متجاهلين الحقيقة الأهم، وهي أن من أهم سمات المثقف الحقيقي الإيمان بحرية التعبير وحرية كل شخص بتبني الأفكار التي يراها مناسبة، وتقبل الاختلاف دون تحويله إلى خلاف، فهؤلاء ليسوا أكثر من طبول لا يصلنا إلا صداها، ويحولون أي اختلاف في الرأي إلى معركة وخلاف، ويتهمون من لا يتوافق مع وجهات نظرهم بالجهل لمجرد أنه لم يوافق على طريقتهم وأسلوبهم.

ولا يقتصر الأمر على هؤلاء فقط، بل هناك نماذج أخرى كثيرة تعيش الازدواجية والتقنع بأقنعة الزيف والكذب، لا لشيء إلا ليبرروا حالة الضعف والنقص التي يعانون منها؛ وبوجود هؤلاء، لا يمكن للثقافة أن تحقق دورها الحضاري، لا بوجهها المادي ولا الروحي، وتحقيق التوازن بين الجانبين هو مسؤولية المثقفين الذين يجب أن يكونوا الحاضن الأمين للثقافة والسمو بها، وإدراك أن الإبداع هو الناظم الحقيقي للثقافة، وأن المثقف الحقيقي هم من توافقت ثقافته مع سلوكه لصوغ واقع أفضل.