الصدام مع تركيا بات حتمياً
عناية ناصر
في أواخر شهر أيلول الماضي، أصبح مايك بومبيو أول وزير خارجية أمريكي يزور اليونان مرتين، وفي حين سعت ملاحظاته الأولية إلى وقف التصعيد، فإن الواقع هو أن جانباً واحداً فقط هو المسؤول عن الصراع الذي يلوح في الأفق الآن وهو النظام التركي، وفي الوقت الذي يرى بعض المحللين أن أردوغان يتراجع في مواجهة الجهد الدبلوماسي والتعبئة العسكرية، فإن وجهة النظر الأكثر شمولية هي أن أردوغان متعنت لأسباب أيديولوجية وشعبوية على حد سواء، وسيواصل القيام بذلك حتى يصل إلى الحد الذي يمكن للاستثمار العسكري الصغير أن يحقق أكبر المكاسب.
إحدى النقاط الساخنة التي يمكن مشاهدتها هي فاماغوستا، فبعد الاستقلال القبرصي، أصبحت فاماغوستا – خاصة حي فاروشا الجنوبي– مركزاً سياحياً رئيسياً لجذب الأوروبيين والغربيين التواقين إلى شواطئها ومنتجعاتها البكر. انتهى كل هذا عندما غزت تركيا قبرص عام 1974، حيث قصفت المدينة في البداية وأجبر العديد من السكان على الفرار ثم احتلتها. توقع سكان فاماغوستا العودة بعد وقف إطلاق النار لكن ذلك لم يحدث، فأصبحت فاروشا مدينة أشباح بمليارات الدولارات من العقارات المسورة والخالية، بعدما تشرد سكانها السابقون.
لقد توقعت أجيال من الدبلوماسيين أن تكون فاماغوستا، وعودة سكانها، المفتاح لأي سلام يتم التفاوض عليه بشأن قبرص. إن ترك تركيا لمدينة فاروشا قد أعطى القبارصة، وأوروبا الغربية ودبلوماسيي الأمم المتحدة الأمل في أن أنقرة لا تزال مهتمة بحل النزاع القبرصي الآن، ومع ذلك، يشير أردوغان إلى أن تركيا قد تتصرف بشكل أحادي لتأهيل فاروشا وتطويرها، وهنا لا يرغب أردوغان فقط في الإشارة إلى صلابته بعد التراجع في نزاعه البحري الأخير مع اليونان، لكنه وداعميه الرئيسيين سيكسبون أيضاً مليارات الدولارات لأنهم يستخدمون أموال الدولة التركية وربما عائدات الموارد التي نهبتها تركيا لإعادة إعمار المباني السكنية والفنادق التي يجب هدمها واستبدالها بعد خمسة عقود.
المشكلة ليست فقط في قبرص أو شرق البحر المتوسط، فالنظام التركي له قوات في سورية والعراق، وقد تدخل أيضاً في ليبيا، ومؤخراً في أذربيجان. والمثير للقلق أن أسلوب العمل التركي الجديد هو استخدام مرتزقة، والكثير منهم من قدامى المحاربين في تنظيم “داعش” أو تنظيم “القاعدة”، وقيام تركيا بإدخال مرتزقتها بسرعة كبيرة في صراعات مختلفة يشير إلى رغبة أردوغان المتزامنة في توسيع تدخلاته في الخارج.
وما وراء مواقفها العسكرية، أصبحت تركيا أيضاً أكثر عدوانية تجاه المنشقين في الخارج، ففي وقت سابق من هذا العام، دخل عميل استخبارات تركي إلى مركز شرطة نمساوي، وذكر أن جهاز المخابرات التركي أمره باغتيال عضو سابق في البرلمان النمساوي، من أصل كردي.
وفي 25 أيلول، هاجم ثلاثة أشخاص مجهولين في ستوكهولم بالسويد عبد الله بوزكورت، الذي ربما كان أبرز صحفي منشق في تركيا، وكان يعمل سابقاً مع فتح الله غولن قبل حملة أردوغان على حركة غولن. حرضت تركيا على شن هجمات على المنشقين والمعارضين- بما في ذلك في واشنطن العاصمة– ويشير اغتيال سياسيين أوروبيين ومهاجمة صحفيين بارزين مثل بوزكورت إلى أن أردوغان يصعد العدوان إلى مستوى جديد.
لكن الرد الأمريكي والأوروبي ظل مقيداً، وهو ما يشجع عدوان أردوغان الذي يعتقد أن الغرب ضعيف، وأنه يستطيع الإفلات من العقاب.
إن المشكلة الرئيسية التي تواجهها أوروبا، وبالتالي الولايات المتحدة، هي ألمانيا المترددة في تطبيق عقوبات ذات مغزى ضد تركيا، لأن أنجيلا ميركل تخشى أن تستخدم تركيا اللاجئين كغطاء لإثارة العنف داخل ألمانيا، أو أن أردوغان قد يحرض السكان ذوي الأصول التركية، وهذا يصب في مصلحة أولئك داخل وزارة الخارجية الأمريكية الذين يسعون لتقويض الجهود لمحاسبة تركيا، فبدلاً من فرض عقوبات من جانب واحد على المسؤولين الأتراك والشركات المتواطئة في انتهاك المياه القبرصية أو اليونانية، يجادل الدبلوماسيون الأمريكيون من المستوى المتوسط بأنهم يريدون فقط فرض عقوبات بالاشتراك مع الاتحاد الأوروبي، مع العلم أن ألمانيا ستمنع تنفيذها بشكل فعال. لذلك، قد يتحدث بومبيو عن رد قوي على العدوان الإقليمي لتركيا من الطابق السابع في وزارة الخارجية، لكن من الناحية العملية، فإن مكتبه للشؤون الأوروبية والأوروبية الآسيوية يرفع ببطء تكلفة أي عقوبات على تركيا، لدرجة أن أردوغان بات يعتقد أنه لن يواجه أي رد لعدوانه.
شرق البحر الأبيض المتوسط هو برميل بارود، فنادراً ما تنجم الحروب عن الرغبة في الموارد وحدها، بل بسبب الثقة المفرطة، فأردوغان يرى أن الجيران يمتلكون موارد ثمينة ويعتقد أن المجتمع الدولي مجرد نمر من ورق، ويظهر التصعيد التركي الأخير في المنطقة أن طموحات أردوغان خارجة عن السيطرة، والسؤال المطروح على واشنطن وبرلين وبروكسل هو ما إذا كانت الولايات المتحدة وأوروبا على استعداد للوقوف وإنهاء تلك الطموحات قبل أن يضغط أردوغان على الزناد، أو ما إذا كانوا سينتظرون بدلاً من ذلك حتى يصبح القرار أكثر تكلفة على الأتراك والجميع في شرق البحر الأبيض المتوسط؟!.