الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ذاكرة الزمن

سلوى عباس

ذاكرتنا.. هذا السجل الذي نقلب عبره صفحات أيامنا، بما تختزنه من أحلامنا وأمانينا.. خيباتنا وانكساراتنا.. نستحضر بها زمناً من غبار يرش لونه على القلب، ومساءات من وجع لا ينتهي.. تعيد ملف الاحتقان لقرص الذكريات، وتخربش على الصور البهية خطوطاً من رماد الحزن..

في صغري كنت مولعة بالحقائب كثيراً، وكانت والدتي تجهد كثيراً مع بداية كل عام دراسي لتعثر على الحقيبة التي تعجبني، والتي لا تشبه حقيبة أي من زميلاتي، وكم كنت أسعد بها وأتخمها بالكتب والدفاتر التي كانت تثقل ظهري من كثرة ما فيها من أغراض.. وكبرت وكبر معي شغفي بالحقائب، ولو أن شكلها وحاجتها اختلفت بالنسبة لي، لكن هاجس أن تكون حقيبتي مميزة وجميلة لم يفارقني حتى هذه اللحظة.

في مرحلة لاحقة اكتسبت حقيبتي ملامح أخرى، أصبحت تضم إلى جانب الكتب والدفاتر المدرسية حاجات أخرى تحمل بعض الخصوصية، فالحياة اختلفت بالنسبة لي، وبراعم الحلم أخذت تتفتح مع ربيع العمر، وكانت مفكرتي الصغيرة التي أحملها في حقيبتي هي سجلي اليومي لما أعيشه من أحداث، تلك المفكرة التي أصبحت تشكل بالنسبة لي ذاكرة أخرى أستحضر من خلالها تلك المرحلة العمرية بكل بساطتها وعفويتها.

اليوم  تعيدني الذاكرة إلى لحظة من العمر، وقفت فيها على مفترق الحياة بعد حصولي على الثانوية العامة وعدم توفر الظروف لمتابعة دراستي الجامعية، لحظة قررت فيها أن أحمل جواز سفري وأبحر في مدن الحلم، أرحل إلى المجهول، أحمل حقائب ذكرياتي معي بكل ما تتضمنه من مفاجآت وأحلام رحت أفردها حلماً حلماً.. أحلام كثيرة دغدغت آمالي يوماً ما، ورسمت لي آفاقاً من طيوف ملونة نسجتها بخيالي وأمانيّ الخضراء كربيع نثر وروده في أروقة الزمان والمكان ليفوح عبيرها عطراً شذياً، ورحت أبحث عن بارقة أمل تنير سراديب عمري، وتمسح عن روحي ما تراكم من صدأ الزمن وغباره، وتحرر نفسي من هواجسها، وتفجّر مكنونات ذاتي في التجرد من ضباب عمري والبعد عن محطة يأسي.

فتحت دفاتر ذكرياتي ورحت أقلب صفحاتها أقرأ فيها تفاصيل أيامي الماضية عندما كانت مساحة الحياة تتسع للكثير من الأحلام، وكم توقّفت عند تلك الأحداث اليومية التي بقيت أحتفظ بها شاهداً على زمن مضى، والتي كانت أشبه بـ”مذكرات يومية” وربما هذا ما نمّا في داخلي شعوراً خفياً لم أكن أدركه في ذلك الوقت بالاتجاه نحو الكتابة.. هذا الشعور الذي لم يترجم إلى حلم وبقي ضمن إطاره العام فترة من الزمن، وتلوّت الدروب تائهة في كل الاتجاهات، والوقت هو الوحيد الذي ظل يتسرّب كتدفق حبات الرمل يدق أجراس انقضاء الأماني..

حزنت من كل قلبي على زمن مضى رافقني فيه الحلم بأطياف ملوّنة، وعندما تحقق حلمي جاءت أطيافه باهتة تتلاشى في الأفق البعيد، وأيقنت أنه كتب عليّ الوصول متأخرة، وأن الحياة جرفتني في تيارها ولم يعد للحلم أن يتصالح مع حياة مزدحمة بالمتاهة والشكوى.. حياة تضيّق خناقها على كل حلم.. وبقيت حقيبتي التي أصبحت مختلفة شكلاً ومضموناً مطبقة على أحلامها التي تنتظر ظروف تحققها كما يليق بالحلم. وباعتبار أننا لم نستطع أن نصنع ممحاة لذكرياتنا المؤلمة، فهل لنا أن نكون أكثر تصالحاً مع واقعنا ونسعى لخلق الظروف لتحقيق هذه الأحلام؟!.