صعود متزايد للفاشية البيضاء وتأثير متنام للقومية المسيحية.. كيف يعاقب فقراء أمريكا في حطام اللحظة الترامبية الراهنة؟!
“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة
اختتم نائب الرئيس الأمريكي مايك بنيس خطاب قبوله في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في 26 آب الماضي، بنغمة توراتية. وفي خطابه أمام نصب فورت ماكهنري التذكاري، في بالتيمور، تحدث للحشد قائلاً: “دعونا نبقي عيوننا مصوبّة على مجدنا السابق، وكل ما يمثله بالنسبة لنا. دعونا نركز أعيننا على أرض الأبطال، هذه، ونستلهم منهم شجاعتهم”. أثناء ذلك، أعاد ترداد عبارة من أسفار العهد الجديد: “دعونا ننظر إِلَى رئيسِ الإِيمانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوع، الذي مِنْ أَجل السُّرور الْمَوْضُوعِ أَمامَه، احتملَ الصَّلِيبَ مُستهيناً بِالْخزْي”.
بطبيعة الحال، لا جديد في أن يمزج السياسيون الأمريكيون بين الدين والسياسة خلال حملاتهم الانتخابية. ومع ذلك، أثار قرار بنيس استبدال العلم الوطني بيسوع دهشة عدد من الطوائف الدينية والسياسية، إذ قدم هذا الدمج بين المجد السابق والمسيح دليلاً إضافياً على تنامي نفوذ القومية المسيحية في عصر ترامب. ولم يعد من الصعب العثور على أدلة لمعرفة عمق تأثير القومية المسيحية في صناعة السياسة الأمريكية، فخلال الوباء، تم استخدام الكتاب المقدس و”تشويهه” مراراً وتكراراً لتبرير إنكار تفشي كوفيد-19، وتقاعس الحكومة. وفي أواخر شهر آذار، عندما كانت المدن تغلق أبوابها، وكان مسؤولو الصحة العامة يوصون بإجراءات صارمة للحجر الصحي، كان الإجراء الأول لترامب أن جمعَ أتباعه في البيت الأبيض في ما وصف بأنه “يوم صلاة وطني” لمنح الأمريكيين القوة لتحمل هذه الأوقات العصيبة. وفي وقت لاحق من الربيع، طالب المحتجون على عمليات الإغلاق، الممولون من مجموعات سوداء، مثل “كوتش براذرز”، بإعادة فتح الولايات للعمل، وإتباع إرشادات التباعد الاجتماعي. وقد رفعت المحتجون لافتات من قبيل: “حتى الفرعون حرر العبيد من الطاعون”، و”تكساس لن يصمها الوحش بعلامته”. وحتى عندما كانت الطوائف الدينية تكافح للتكيف مع خدمات العبادة، عبر تطبيق دردشة الفيديو “زوم”، فضلاً عن الرعاية الكنسية عن بُعد، استمر ترامب بتأجيج نيران الخلافات الدينية، معلناً أن أداء العبادة الشخصية “ضروري”، بغض النظر عن تشكيك الخبراء القانونيين بسلطته للقيام بذلك.
عند الحديث عن نسخة ترامب للقومية المسيحية، لا ينبغي لأحد أن ينسى مشهد شهر حزيران، في ساحة لافاييت، بالقرب من البيت الأبيض، عندما جرى إطلاق الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين المطالبين بالعدالة العرقية، لكي يتمكن الرئيس – المرشح من التجول في كنيسة سانت جون القريبة، والوقوف بفخر على درجاتها، ورفع الكتاب المقدس بيده إلى أعلى، على الرغم من أن المصورين كانوا يشككون في ضآلة الوقت الذي يقضيه بين صفحاته.
المعركة من أجل الكتاب المقدس في التاريخ الأمريكي
لفهم الكيفية التي يستخدم بها السياسيون الأثرياء، وجوقة المتطرفين التابعين لهم، السلطة في العام 2020، لابد لنا من النظر إلى دور الدين في حياة الأمريكيين، حيث تدور اليوم معركة ملحمية في سبيل الكتاب المقدس، وفي بلد تم التنازل عنه – بشكل كبير – للقوميين المسيحيين الإنجيليين البيض، إذ حصلت الشبكة، الممولة جيداً من الكنائس والمنظمات غير الربحية والجامعات ومراكز الفكر، والتي ترتبط بخطوط مباشرة مع كبار المسؤولين السياسيين، على تفويض مطلق لتحديد ما يتم تمريره للنقاش الديني في هذه البلاد، وإملاء ما تعنيه الأخلاق في المجتمع. وفي عهد ترامب، وصلت القومية الدينية هذه إلى ذروتها، إذ ترسخت حركة رجعية تضم المليارديرات التكنوقراط، ومبشري التلفزة، والميليشيات المسلحة، من خلال رسالة بسيطة: “الله يحب أمريكا المسيحية البيضاء، ويفضل الحكومات الصغيرة والشركات الكبرى، ويكافئ النزعة الفردية، والأعمال الحرة”. وفي الوقت نفسه، يتم إلقاء اللوم على الفقراء والملونين والمهاجرين جراء المشاكل التي يواجهها المجتمع، حتى مع زيادة ثراء الأغنياء في بلد لا يزال الأغنى في تاريخ العالم.
تعتبر الأخطار المتأتية عن القوميين المسيحيين اليوم حقيقة واضحة للعيان، إلا أن المعركة من أجل الكتاب المقدس، نفسها، ليست جديدة في أمريكا. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اقتبس مالكو العبيد من سفر فليمون وبعض السطور من رسائل القديس بولس للادعاء بأن الله شرّع العبودية، كما قاموا بتمزيق صفحات سفر الخروج من الأناجيل التي قدموها للمستعبدين. وخلال العصر الذهبي للقرن التاسع عشر، بشرت الكنائس والساسة، على حد سواء، بـ “إنجيل الازدهار” الذي يمجد فضائل الرأسمالية الصناعية. وبعد عقود، واصل أنصار الفصل العنصري استخدام النصوص التوراتية لتبرير ممارساتهم القائمة على قوانين جيم كرو – التي فرضت الفصل العنصري بموجب القوانين المحلية (1876 – 1965) في جميع المرافق العامة في الولايات الجنوبية – بينما ساعدت منظمة “الغالبية الأدبية” – التي تأسست في أواخر السبعينيات – على إدماج جيل جديد من المسيحيين المتطرفين في السياسة الوطنية. ولا تزال ماثلة في الأذهان ذكريات السياسيين الذين كانوا يقتبسون مقاطع من “رسائل إلى أهل تسالونيكي” (حيث يعبر القديس بولس عن قلقه لرفاهية أهل المدينة، ويشجعهم على المعاناة، ويطمئنهم إلى قرب المجيء الثاني للسيد المسيح، والذي كان يتوقع حدوثه في تلك المرحلة المبكر)، في الفترة التي سبقت إقرار قانون إصلاح الرعاية الاجتماعية، عام 1996، كدليل على أن الله يؤمن بمتطلبات عمل برامج المساعدة العامة. ويعرف طلاب الدين والتاريخ أنه على الرغم من أن مثل هذه المعارك اللاهوتية غالباً ما تنحدر بشكل كارثي نحو العنف والحرمان والكراهية، إلا أن التفكير الديني المسيحي كان أيضاً عنصراً رئيسياً في التغيير الاجتماعي الإيجابي في أمريكا.
“الإشارة النفسية” للتطبيق السيء للدين“
كيف تم التلاعب بالكتاب المقدس لإخفاء قوته التحررية المحتملة؟ خاصة لجهة إساءة استخدام المقطع الأكثر شهرة عن الفقراء من “إنجيل متى”: “الفقراء سيكونون معنا دائماً”.
كثيراً ما يجري الاقتباس من “إنجيل متى” لتبرير الفقر الأبدي الذي يقتصر تخفيف أثاره – في أحسن الأحوال – على الأعمال الخيرية، وليس على الحكومة. ولا يمر مثل هذا المنطق عبر العديد من المؤسسات الدينية، بما في ذلك ما يعرف الآن باسم “المسيحية الإنجيلية”، فحسب، ولكن أيضاً عبر الهيئات التشريعية، والمحاكم، والجيش، والمدارس، وغير ذلك. ولم يؤد ذلك إلى تشكيل عقول الشباب المسيحيين فحسب، بل وساعد على إضفاء مسحة روحانية على الفقر وترسيخه، وبرّر، ضمنياً، وحتى بشكل صريح، واقع عدم المساواة المتزايد في المجتمع الأمريكي. واليوم، أصبحت الفكرة القائلة بأن الفقر هو نتيجة سوء التصرف، أو الكسل، أو ارتكاب الخطيئة، وليس نتيجة قرارات تتخذها السلطة، هي السائدة في واشنطن في عهد ترامب والسيناتور ميتش ماكونيل؛ وباتت مقاطع الكتاب المقدس – كتلك الموجودة في “إنجيل متى” – أداة إيديولوجية أخرى يلوح بها الرجعيون والأثرياء لصرف الانتباه عن الإخفاقات المنهجية في أمريكا اليوم. ولنتمعّن، على سبيل المثال، في التطور التاريخي لما يُعرف غالباً باسم “حزام الكتاب المقدس”، أو بالأحرى “حزام الفقر” الذي يمتد من الجنوب، من نورث كارولينا، إلى ميسيسيبي، ومن تينيسي إلى ألاباما، موطن الفقراء من كل عرق، حيث يمثل أشد المناطق فقراً في الولايات المتحدة، والتي أصبحت كذلك، إلى حد ما، بسبب اللاهوت الهرطقي، والتفسير الخاطئ للكتاب المقدس، والقومية المسيحية.
تاريخ طويل يعود إلى أوائل المستوطنين المستعمرين في عصر العبيد، ويلتقي فيه الفقر والدين في منطقة “حزام الكتاب المقدس”، وتتردد أصداؤه من خلال قوانين جيم كرو الذي حكم المنطقة حتى نهاية سنوات الحقوق المدنية، والمفهوم السياسي الحديث لـ “الجنوب الصلب” (حيث قدمت ولايات الجنوب دعمها القوي للحزب الديموقراطي من العام 1877، وحتى العام 1964)، وهو تاريخ يكمن ضمن حدوده إرث وحشي من سياسة “فرق تسد” التي لا تزال تعمل على تسييس الكتاب المقدس، حتى يومنا هذا، من خلال الادعاء بأن الفقر ناتج عن الخطيئة مع الله، ويعلم الفقراء – البيض على وجه الخصوص – أنه على الرغم من أنهم قد يملكون القليل أو لا يملكون شيئاً، إلا إنهم على الأقل “أفضل” من الملونين.
كان مارتن لوثر كينغ أوضح، في نهاية المسيرة الدموية من سيلما إلى مونتغمري، في ألاباما، عام 1965، سياسات الانقسام القديمة في المنطقة على هذا النحو: “إذا كان يمكن القول عن حقبة العبودية أن الرجل الأبيض أخذ العالم، وأعطى يسوع الزنجي، فيمكن أن يقال عن عصر إعادة الإعمار أن الطبقة الارستقراطية في الجنوب سيطرت على العالم، وأغلقت أفواه الفقراء البيض بقانون جيم كرو.. وعندما صرخت معدته الخاوية طلباً للطعام الذي لا تستطيع جيوبه الفارغة توفيره، أخبره جيم كرو أنه على الأقل، وبغض النظر عن مدى سوء حالته، رجل أبيض، أفضل من الملون”.
هذا “المفعول النفسي” معالج ومطبوخ في خليط من العلوم العنصرية الزائفة، والأرثوذكسية الاقتصادية، والتطبيق السيئ للدين؛ وقد استطاع الحفاظ على قوته الهائلة – إلى حد كبير- باستخدام الكتاب المقدس لشرعنة النهب والمعاناة البشرية على نطاق واسع. ولربما لم يعد جيم كرو موجوداً، لكن تاريخه يطارد أمريكا حتى يومنا هذا، ولا يزال الكتاب المقدس يُستخدم كسلاح لتوطيد السياسة العنصرية ضد الفقراء والبيض.
ومع استمرار اختفاء الوظائف والفرص، لا يزال الكتاب المقدس، بغض النظر عن تفسيره، يؤثر على الحياة اليومية لملايين الأمريكيين، وتؤثر طريقة فهمه على الاتجاه السياسي والأخلاقي للبلاد، مع العلم أن ولايات “الحزام المقدس” – حيث تسود القومية المسيحية التي تستخدم الإنجيل على طريقتها – تمثل أكثر من 193 صوتاً من أصوات الهيئة الانتخابية، وبالتالي ستلعب دوراً رئيسياً في تحديد مصير ترامب ومايك بنيس في تشرين الثاني.
في حزيران 2019، وخلال جلسة استماع في لجنة الموازنة، في مجلس النواب، لبحث الواقع الاقتصادي للأسر المتعثرة، تمت دعوة مجموعة متنوعة عرقياً وجغرافياً ممن يدعون أنهم قادة حملة الفقراء للإدلاء بشهاداتهم، وكان هناك من بينهم اثنان من القساوسة الملونين دعاهم أعضاء الكونغرس الجمهوريون للوقوف كنماذج على أن الإيمان والعمل الجاد هو الوصفة الوحيدة لحياة جيدة ومستقرة للفقراء.
طرح البعض، خلال الجلسة، ما أطلق عليه “الميزانية الأخلاقية للفقراء”، وهي دراسة تظهر أن الولايات المتحدة لديها من الأموال ما يكفي لإنهاء الفقر والجوع والتشرد، ولكنها لا تملك الإرادة
السياسية للقيام بذلك. ولكن سرعان ما تحوّل أعضاء اللجنة إلى الصور النمطية ذاتها عن أسباب الفقر في أمريكا الغنية، واستشهد آخرون بالفشل المفترض للحرب على الفقر في الستينيات كدليل على أن برامج الارتقاء الاجتماعي غير فعّألة، متجاهلين الطريقة الدراماتيكية التي قوض بها السياسيون تلك المبادرات في السنوات التي تلت ذلك.. كان هؤلاء يروجون للاهوت هرطقي يدعي أن الناس يعانون من الفقر لأنهم – إلى حد كبير- بعيدون عن الله، ويفتقرون إلى إيمان عميق بيسوع. في الواقع، كانوا يحرفون ما يقوله الكتاب المقدس عن الفقراء. وعلق نائب جمهوري بأنه لم يقرأ في الإنجيل أن “يسوع يطلب من قيصر الاهتمام بالفقراء”، بينما اقترح آخر أن الأعمال الخيرية المسيحية، وليس برامج الحكومة، هي المفتاح للتخفيف من حدة الفقر.
وقد يًفاجأ شخص ما بسماع الكثير من هؤلاء وهم يبحثون عن غطاء ديني لدعاواهم السياسية، ولكن الجميع يعرف أن النصوص الدينية تحضّ فعلياً على الاهتمام بالفقراء والمحرومين، وأن من هم في السلطة الأمريكية يسعون إلى إساءة استخدام التقاليد الدينية المسيحية وتشويهها.. وتلك هي، بطبيعة الحال، صيغة حقبة ترامب، حيث جمع 643 أمريكياً 845 مليار دولار إضافية، خلال الأشهر الستة الماضية من وباء كورونا، ما رفع ثروتهم مجتمعة بنسبة 29٪، في وقت تضاعفت أعداد الأمريكيين الأكثر فقراً في أوساط البروتستانت الإنجيليين. ولن يكون مفاجئأ أن نعلم أن خرائط الفقر تتداخل بشكل كامل تقريباً، وبشكل رئيسي في منطقة “حزام الكتاب المقدس”، ولكن أيضاً في الغرب الأوسط والولايات الوسطى، وحتى في أجزاء من الشمال الشرقي والغرب، بمعنى أن هناك ارتباطاً متزايداً بين المعركة من أجل حقوق التصويت والرعاية الصحية، وغيرها من المصادر بالغة الأهمية، بالمعركة من أجل الكتاب المقدس. وتُقاس الرهانات بصحة الأمة بأكملها، لأن السياسيين الذين يتلاعبون بالكتاب المقدس والحق في التصويت للفوز بالانتخابات يمررون سياسات وميزانيات غير أخلاقية.
ورغم كل شيء، وفي كل فصل من فصول التاريخ الأمريكي، كان دعاة إلغاء الرق، والعمال، ومنظمو العمال، وقادة الحقوق المدنية، وممثلون آخرون للمضطهدين، يكافحون من أجل أمة أفضل، ليس فقط في الشوارع وأماكن العمل، بل وأيضاً في المنابر. واليوم، وفي حطام اللحظة الترامبية الراهنة، مع الصعود المتزايد للقومية البيضاء الفاشية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يجب أن يتمتع بنيس والقوميون المسيحيون الآخرون بسلطة تعريف المسيحية إذا كانوا عازمين جداً على “تثبيت أعينهم على المجد القديم”؟ ألا يجب عليهم أيضاً أن يصوّبوا أعينهم على ما قاله يسوع السيد المسيح بالفعل؟