مجلة البعث الأسبوعية

بموازاة “روسوفوبيا”.. هل تعلن واشنطن عن ظاهرة “صينوفوبيا”؟

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

ليس خبراً عاديّاً أن تعلن الولايات المتحدة الأمريكية عن إسقاط منطاد صيني تسلّل إلى أجواء البلاد منذ أربعة أيّام عابراً الأراضي الكندية، وصولاً إلى سواحل ولاية كارولينا الجنوبية، حيث أعلنت قناة “فوكس نيوز”الأمريكية، أن سلاح الجو الأمريكي أسقط المنطاد الصيني في البحر قبالة الولاية.

وأيّاً يكن من أمر هذا المنطاد، وسواء أكانت الرواية الصينية صحيحة أم مضلّلة، فإن حادثة المنطاد أظهرت مجموعة من الأمور التي ينبغي أن يتنبّه إليها المراقب، أوّلها أن الولايات المتحدة تكذب عندما تتحدّث عن أن الصين تمثّل خطراً استراتيجياً على أمنها، لأنها إذ ذاك سوف تتخذ جميع الاحتياطات الممكنة لمنع مثل هذه الحادثة قبل وصول الجسم إلى أراضيها، وهذا طبعاً بعد التأكيد أن واشنطن تملك من وسائل الدفاع الجوي ما يكفي للتعامل مع هدف من هذا النوع.

أما وقد تمكّن المنطاد من قطع آلاف الكيلومترات، عابراً الأجواء الكندية وصولاً إلى ساحل الولايات المتحدة الشرقي، فإن الأمر ينطوي على شيء آخر، وهو ثاني الأمور، أن هذا المنطاد أثبت عجز الولايات المتحدة عن التعامل مع أسهل الأهداف، وبالتالي فإن قيامها بإسقاط المنطاد بعد أربعة أيام من دخوله أجواء القارة، إنما يثبت من جهة ثانية، أن لدى الولايات المتحدة بالفعل مخاوف فعلية من التعامل معه انطلاقاً من السوابق التي تملكها واشنطن في هذا النوع من الحروب.

وثالث هذه الأمور، أن حادثة من هذا النوع أثبتت، إن صحّ اعتراض الصين على إسقاط المنطاد، أن لدى الصين حنكة هائلة في التعامل مع مثل هذه الأمور، حيث   أعربت وزارة الخارجية الصينية، عن استيائها من قيام الولايات المتحدة بإسقاط منطاد “الأرصاد الجوية الصيني”، الذي عدّته واشنطن منطاداً للتجسس.

فالجانب الصيني أعرب عن استيائه الشديد واحتجاجه على استخدام القوة من الولايات المتحدة لمهاجمة منطاد مدني غير مأهول، بمعنى أنه لم يكن متوجّباً على سلاح الجو الأمريكي أن يستخدم القوة في التعاطي مع المنطاد الذي هو هدف صغير ولا يحتاج إلى كل هذه الضجّة في التعامل معه، وخاصة أن الصين أخطرت، الجانب الأمريكي بعد التحقق، مراراً وتكراراً بأن المنطاد مخصّص للاستخدام المدني ودخل المجال الجوي الأمريكي، بسبب قوة قهرية، ومن هنا فإن ردّ الفعل الأمريكي كان غير متوقع تماماً حسب الخارجية الصينية.

ثم لماذا لم تقتنع واشنطن بالرواية الصينية أصلاً، وما الذي دفعها إلى البحث فيما وراء هذا الحدث وتحميله حيثياتٍ أخرى ربما تكون بالفعل بعيدة عن حقيقته، وخاصة بعد أن اجتاز المنطاد الصيني مواقع عسكرية حساسة في جميع أنحاء أمريكا الشمالية وأصبح أحدث بؤرة توتر بين واشنطن وبكين، ولماذا انتظر الجيش الأمريكي وصوله إلى منطقة آمنة فوق مياه المحيط الأطلسي قبالة السواحل الشرقية للبلاد.

وما دام هناك بالفعل تنسيق عالي المستوى بين الولايات المتحدة وجارتها كندا فيما يخص المنطاد، حسب ادّعاء رئيس الحكومة الكندي جاستن ترودو، فلماذا لم يقم الجانبان بإسقاط هذا الهدف قبل عبوره الأجواء الأمريكية، ولماذا لم يتم الإعلان عن ذلك قبل أربعة أيام مثلاً، حيث كان بالإمكان الوصول إلى نتيجة أفضل قبل أن يؤدّي مهمّته التجسّسية حسب الادّعاء الأمريكي.

ولكن يبدو أن الأمر يحمل في طيّاته الكثير من المعاني التي لا تستطيع الإدارة الأمريكية الإفصاح عنها، وهي أن هذه الإدارة التي تحاول إثارة القلاقل بالقرب من حدود الصين، وتستفزّ بكين بشكل يومي فيما يخص التدخل في شؤونها الداخلية عبر “تايوان” التي تعدّها الصين شأناً داخلياً، عاجزة عن إعطاء أيّ إجابات موضوعية عن الأسئلة التي يمكن إثارتها حول هذه الحادثة، منها أن يكون المنطاد عبارة عن رسالة ردّ من الصين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بأقل تكلفة مفادها أن الصين تستطيع الوصول إلى أراضي الولايات المتحدة، وتسبّب لها إزعاجاً وقلقاً كبيرين.

فقد اكتفى مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأمريكية، بالتصريح بأن الدراسات التي أجرتها الولايات المتحدة على المعدات في المنطاد الصيني، أظهرت أنها تستخدم لمهمّات التجسّس والاستطلاع، مشيراً إلى أن بلاده أبلغت بكين بأنها أسقطت المنطاد قبالة ساحل كارولينا الجنوبية.

ومن أجل ترك النتائج المتوخاة من الحديث عن فرضية التجسّس مفتوحة، أمِلت واشنطن أن يتم العثور على الأجهزة المحمّلة عليه ودراستها، وبالتالي إذا لم تتمكّن من إثبات هذه الفرضية ذهبت إلى أن الأجزاء المتعلّقة بموضوع التجسّس لم يتم العثور عليها في مياه المحيط، أو أن الصين استطاعت أن تدمّر هذه الأجزاء، أو أن تدميرها تم بشكل ذاتي بعد أن أدّت المهمّة التي أرسل المنطاد من أجلها.

كل ذلك لأن الولايات المتحدة بالفعل عاجزة عن تبرير مخاوفها أمام الداخل الأمريكي الذي راقب بصمت ما قالته وسائل الإعلام الأمريكية حول الحادثة التي ضربت في الصميم مفهوم التفوّق الأمريكي في موضوع الدفاع الجوي، وبالتالي يتم الحديث عن إسقاط المنطاد عبر طائرة مقاتلة تابعة للقوات الجوية، حيث تُظهر اللقطات انفجاراً طفيفاً أعقبه هبوط المنطاد نحو المياه، وتُشاهَد طائرات عسكرية أمريكية تحلّق في المنطقة المجاورة، ويتمّ نشر سفن في المياه لبدء عملية انتشال الحطام.

فمنطاد الاستطلاع تم رصده فوق أراضي الولايات المتحدة، قادماً من جزر ألوتيان عبر أراضي كندا ووصل إلى ولاية مونتانا الأمريكية، وتم تحديده بأنه منطاد استطلاع وتم تتبّعه خلال اليومين الماضيين، وكانت السلطات الأمريكية تراقبه “عن كثب”، واتخذت “إجراءاتٍ للوقاية من جمع معلومات حساسة”، ورغم كل هذه المعلومات التي كانت تملكها السلطات الأمريكية، إلا أنها امتنعت عن إسقاطه خشية وقوعه في مناطق مأهولة حسب زعمها، وكأن الولايات المتحدة كلها بصحرائها وجبالها و”أماكنها العسكرية الحساسة” كما ادّعت، مأهولة بالسكان.

ردّ ممثل وزارة الخارجية الصينية ربّما كان أقرب إلى البرود حيث أكد أن “المنطاد وصل من الصين والغرض منه ذو طبيعة مدنية، ولا سيما أنه يستخدم لأبحاث الأرصاد الجوية” ووفقاً له، “بسبب الرياح الغربية القوية، فُقدت السيطرة على المنطاد وانحرف عن المسار المحدّد”، بينما أعلنت وزارة الدفاع الصينية، أن استخدام الولايات المتحدة، القوة العسكرية لإسقاط “المنطاد الصيني المدني دون طيار”، يعدّ ردّ فعل مبالغاً فيه من جانب واشنطن، محافظةً على برود من نوع آخر، ومعربة عن أنها تحتفظ بحق اتخاذ المزيد من الإجراءات الضرورية.

غير أن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ماو نينغ، عادت لتزرع مزيداً من علامات الاستفهام عندما دعت الولايات المتحدة إلى وقف حملة التكهّنات حول المنطاد الصيني، مشيرة إلى أنه منطاد مدني للأرصاد الجوية، انحرف عن مساره نتيجة العوامل الجوية.

ولكن الأمر الذي تخشاه واشنطن بالفعل هو أن الدعاية التي نشرتها طوال الفترة الماضية حول الخطر المحدق بالبلاد من جهة الصين، بما شكّل بالفعل فوبيا لدى المتلقّي الأمريكي من الصين، ربّما دفعت بالفعل الساسة الأمريكيين قبل المواطنين إلى بناء مجموعة من التكهّنات حول هذا المنطاد الذي ربّما يكون كما قالت بكين في مهمّة للأرصاد انحرف عن مساره نتيجة العوامل الجوية، ولكن حالة “صينوفوبيا”، إن صحّ التعبير، التي دأبت على إشاعتها في الأوساط المحلية والدولية، ربّما تجعل من المستحيل التصديق بأن مهمّة هذا المنطاد كانت مدنية صرفة، وبالتالي فإن مشاعر القلق انتابت البنتاغون نفسه قبل أن تنتاب المواطن الأمريكي، الأمر الذي ساهم ببثّ الرعب فعلاً في الشارع الأمريكي.

وفي المحصّلة لا بدّ من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ذاتها ربّما كانت بالفعل على دراية بهذا المنطاد منذ دخوله أجواء القارة، ولكن خوفها من الرسائل الخطيرة التي يمكن أن يحملها جعلها تحجم عن إسقاطه منذ اكتشافه، حيث من الممكن مثلاً أن تكون الصين قد حملت على هذا المنطاد أنواعاً من طيور الأبحاث البيولوجية الأمريكية التي وقعت في يدها، والتي تمكّن الجيش الروسي من الحصول على الوثائق المتعلّقة بها من تركة المختبرات الأمريكية المنتشرة في الأراضي الأوكرانية، وفي هذه الحالة لن تستطيع واشنطن الإقرار حتى بهذه الفرضية لأنها إذ ذاك تكون قد اعترفت بحقيقة أبحاثها في أوكرانيا وغيرها من الدول المحيطة بالصين وروسيا.