مجلة البعث الأسبوعية

“قوية على الضعيف ضعيفة أمام الأقوياء” السياسة الخارجية الفرنسية على المحك: ضعف وتخبط ومعايير مزدوجة!!

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

سبعة عشر عاماً مرت على الرفض التاريخي للغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والذي عبرت عنه كل من فرنسا وألمانيا وروسيا، وأحدث تحولاً في المواقف الدبلوماسية الفرنسية. لكن، ومنذ الولاية الثانية لجاك شيراك، ومع عهد نيكولا ساركوزي، مروراً بعده بفرانسوا هولاند، وصولاً إلى رئاسة إيمانويل ماكرون، باتت السياسة الخارجية الفرنسية كارثة سياسية حقيقية لا نهاية لها، باعتراف كبار الخبراء والمحللين الفرنسيين.

فمنذ عام 2007، ورئاسة ساركوزي (2007 – 2012)، التي روجت لها الولايات المتحدة عند نهاية عهد بوش الابن، ثم أوباما الذي كان ذروة التخريب في الولايات المتحدة، تم دفع فرنسا من قبل الأنغلو – أمريكان بمهارة للتصرف بطريقة تتعارض تماماً مع المصالح الاستراتيجية الفرنسية. وقد تجلى ذلك خلال الحرب الليبية التي تتلخص بالتدخل الفرنسي – البريطاني بذريعة إنسانية، والذي بدأ على ثلاثة مراحل بقصف طرابلس، ومن ثم الهجوم على بنغازي برتل من الدبابات والمدرعات، ومن ثم تحويل طرابلس وبنغازي إلى ركام من الأنقاض. عدوان سافر بني على أكاذيب وتضليل وتلاعبات السلطات الفرنسية بغية حفر عقول الغربيين المتخلفة والواهنة، وعلى وجه الخصوص عقول الفرنسيين الذين تم خداعهم وتضليلهم من قبل ساركوزي ومستشاريه العسكريين لتبرير العدوان وتدمير ليبيا والشعب الليبي باستخدام ذرائع واهية، لتتحول ليبيا اليوم إلى بلد مُقسّم، مُهدّم، ومُدمّر بين أيدي الإرهابيين الجهاديين المدعومين من الغرب. فرنسا وحلفاؤها كانوا المحرك الأساسي والصناع لهذه الكارثة التي أصبحت عليها ليبيا.

ساركوزي بدّد أيضاَ مصداقية فرنسا بشكل دائم في سورية ومنطقة الشرق الأوسط، حيث اتسمت سياسته، وسياسة سلفه ماكرون، بالعدائية المطلقة، لتكون باريس رأس الحربة في جوقة المتآمرين الغربيين والعرب على سورية. وكما فعل في ليبيا، فعل في سورية لجهة تقديم كافة أشكال الدعم للإرهابيين الذين تم استقدامهم من معظم أنحاء العالم لتدمير الدولة السورية. ولم يكتف الرؤساء الثلاثة – ساركوزي، هولاند، وماكرون – بدعم الإرهاب وإرسال المال والسلاح والمرتزقة إلى سورية، بل دفعتهم عدائيتهم للتدخل العسكري المباشر في شمال سورية، حيث تتواجد قوات خاصة فرنسية لدعم التنظيمات الإرهابية والميليشيات الانفصالية لحزب العمال الكردستاني؛ كما تبرع المدعو ماكرون بتوجيه ضربة عسكرية أحادية الجانب لسورية دون أي تفويض أممي بذريعة رواية “الهجوم الكيميائي المزعوم” في دوما. وكان سلفه، هولاند، قد استكمل رواية الحرب هذه بحماسة، وأقدم على تسليح الإرهابيين بحماس وسخاء بلغا ذروتهما في صيف 2013، عندما هاجم بأسوأ الكلمات سورية دون أن يعلم أن حلفاء فرنسا الأنغلو – أمريكان سيتخلون عنها، عندما أعلنت روسيا لـ “المجتمع الدولي” أن أي هجوم ضد سورية سيكون بمثابة هجوم مباشر ضد روسيا.

تم التخلي عن فرنسا، فجأة، بتشجيع من حزب داخلي من الخونة المناهضين لفرنسا التي وجدت نفسها وحدها تأسف لأن الولايات المتحدة تراجعت عن ضرب سورية مباشرة. ومنذ ذلك الحين، كما في ليبيا، لم يعد للدبلوماسية الفرنسية أي نوع من التأثير على الأزمة السورية. وستبقى بعيدة عن أي حل مستقبلي سيكون بالضرورة نتاج تفاهم بين القوى العظمى.

ومع انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، في تشرين الثاني 2016، تم استحضار مجموعة من “خدم” الامبراطورية الأمريكية، الذين مارسوا النفاق الأورويلي في حربهم على سورية، واستغلوا إرهابيي “القاعدة” التي يزعم الجيش الأمريكي محاربتها في كل مكان. ومنذ ذلك الحين، وفي سياق العديد من الأزمات الجيوستراتيجية الكبرى الأخرى، تمكن الرئيس ماكرون من إطلاق العنان لمواهبه الفريدة، ويواصل عمله في التدمير الكامل للمصداقية الدبلوماسية الفرنسية في العديد من الملفات.

 

ماكرون “المحرض الأكبر” ضد روسيا في بيلاروسيا

ولكن، في أخطر مسارح العمليات الحالية، وبطريقة دراماتيكية مدمرة لمصداقية فرنسا، وفي تحد لتحالفاتها التاريخية، وجد الرئيس ماكرون نفسه مرة أخرى في موقع المحرض الأكبر من خلال لعب دور رأس الحربة ضد روسيا، في سياق أزمة مزدوجة تتجاوز بتداعياتها إدراكه، وتتعلق بكل من بيلاروسيا على خلفية مشروع أنبوب الطاقة “نورد ستريم 2” الاستراتيجي في بحر البلطيق، وبالتوتر المتجدد بين أذربيجان وأرمينيا، بخصوص إقليم ناغورنو كاراباخ.

في هذه الأزمة المزدوجة، من المفارقات أن الدبلوماسية الفرنسية تعض ذيلها بنفسها، فبعد أن عارضت تركيا مرتين في البحر الأبيض المتوسط، فيما يتعلق بقضايا ليبيا والطاقة، قدمت دعمها المضمون، في أيار وتموز 2018، لإلهام علييف، رئيس جمهورية أذربيجان، قبل أن تعارض تركيا مرة أخرى فيما يتعلق بأزمة ناغورنو كاراباخ، وهي تعلم جيداً أن أردوغان قام باستقدام الإرهابيين، الذين استخدمهم منذ العام 2011، في سورية، إلى الإقليم للقتال إلى جانب جيش أذربيجان. لكن في الوقت نفسه، أعلن ماكرون انحيازه ضد روسيا من دول البلطيق، حيث كان يقوم بزيارة رسمية لقاعدة تابعة لحلف شمال الأطلسي، وفي سياق تؤيد فيه فرنسا الرواية العدائية لحلف شمال الأطلسي ضد روسيا في أوروبا الشرقية. وفي هذا السياق، انحاز ماكرون علناً ضد روسيا في الملف البيلاروسي، مُتطرّقاً لموضوع “المعارضة الديمقراطية التي قمعها ظلماً ديكتاتور بيلاروسي شنيع متحالف مع روسيا الشريرة للغاية”. وبالتالي فإن الدبلوماسية الفرنسية حليف فعلي لروسيا في القوقاز، ولكنها معارضة لروسيا في أوروبا الشرقية. هذه الدبلوماسية غير الواضحة، وغير المتماسكة، والمتخبطة، وذات المعايير المزدوجة، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى محو القناة الدبلوماسية الفرنسية لافتقارها التام إلى المصداقية، فما يفوق فهم ماكرون هو “الكماشة الجيوستراتيجية” المتزامنة التي تحاول العولمة فرضها على روسيا، من خلال ضرب النفوذ الروسي في بيلاروسيا والبلطيق من جهة، وفي القوقاز من جهة أخرى. ومنذ حقبة التسعينيات، كان الهدف الجيواستراتيجي هو نفسه دائماً: افتعال الخراب الكامل لروسيا من خلال إلغاء سيادتها على مصادر وممرات الطاقة والاستيلاء على موادها الخام، وهي استراتيجية تخدم الكارتلات المصرفية العالمية لوول ستريت وبنك سيتي.

ولتحقيق هذا الهدف، تم استخدام وتطبيق الخطط المتعلقة بما يسمى “تغييرات النظام”، وهي تقنيات متعددة الأوجه للهندسة الديمقراطية تعمل بمهارة لغسل أدمغة الرأي العام وتأليبه، وإعداد حركات تخريبية تبدو مدنية، ولكنها لا تعدو كونها، في الواقع، وجهاً لصراع عسكري بحت، كما حدث في بولندا خلال الثمانينيات، وأيضاً في الصين، ثم في يوغوسلافيا خلال التسعينيات، وفي أوروبا الشرقية التي شهدت ما يسمى بـ “الثورات “الملونة”، وآخرها “الربيع العربي” المزعوم، ومرة أخرى في أوكرانيا في العام 2014، من أجل ممارسة المزيد من الضغط على العمل الروسي في سورية. واليوم، في بيلاروسيا، حيث يتم وضع الأساليب التخريبية نفسها قيد التشغيل على نطاق واسع.

فإلى جانب فكرة تعطيل محور الدعم الاستراتيجي لسورية بقيادة روسيا، مروراً بمنطقة القوقاز وأرمينيا، ظهرت جوانب أخرى واضح لتزامن الأزمات هذا، منذ آذار الماضي، في سياق الأزمة الصحية العالمية الراهنة، مع تفشي جائحة كورونا التي يمكن اعتبارها، من نواح كثيرة، ذات جوانب مثيرة للفضول، بل ومشبوهة، وتنطوي على انهيار مبرمج لأسعار المواد الخام الاستراتيجية، بحيث يظل الهدف الاستراتيجي كما هو: تدمير واستنفاد روسيا من خلال الاستنزاف النقدي، والإجراءات المفروضة عليها من الخارج لعرقلة دعم حلفائها، وتحريك الاضطرابات الاجتماعية الداخلية. وفي هذا الصدد، من الضرورة بمكان التنويه إلى أن بيلاروسيا رفضت العديد من الإجراءات التي كانت منظمة الصحة العالمية ترغب في فرضها عليها، كشرط للقروض التي يدعي صندوق النقد الدولي تقديمها لها بسخاء. ويوضح هذا تماماً دور الاستنزاف النقدي في ظهور العولمة، ونواياها لتدمير سيادة الدول والشعوب. وبسبب رفضه الشجاع لهذه الشروط، أصبح لوكاشينكو “الرجل الذي يقتل شعبه” من وجهة نظر البروباغاندا الغربية.

وعليه، فإن المستهدف من القضية البيلاروسية هو روسيا بالطبع، وإذا سقطت روسيا البيضاء فستكون روسيا أكثر تهديداً بالنسبة للغرب مما هي عليه بالفعل، بسبب عملها الشجاع في العالم. ولذلك، تحاول مجموعة من وكلاء التأثير التخريبي الممولين من الخارج إسقاط بيلاروسيا، مستفيدين، كما في روسيا، من التداعيات الحتمية للحقبة السوفيتية.

على أي حال، لا يزال من الضروري فهم النفاق الشديد للنشاط الغربي ضد بيلاروسيا، والذي يجد الرئيس ماكرون نفسه مرة أخرى تحت رحمته، في تحدٍ لمصالح فرنسا الاستراتيجية وصداقاتها التاريخية.

حقيقةً، يعمل ماكرون على تشويه صورة فرنسا، ويثير وصمة العار في العالم ضدها عندما أيد أخيراً رواية “التهديد الروسي”، وهي رواية كانت قد فرضت عليه بمهارة من قبل وسائل الإعلام الأنغلو- أمريكية والفرنسية، والتي تفيد بأن روسيا “هاجمت أوروبا من فرنسا”. ليس هذا فحسب، بل ويجرؤ على الادعاء بإعطاء دروس في الحرية والديمقراطية للرئيس لوكاشينكو، ماضياً إلى حد المطالبة باستقالته، على الرغم من أنه خلال عامين من القمع المستمر للسترات الصفراء، فإن الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن الفرنسية بحق المتظاهري لم تشهدها فرنسا من قبل، وبالتأكيد من خلال تقنيات مخزية ومخالفة تماماً للتقاليد المثبتة في حفظ النظام في فرنسا. وسوف يسمح التطور التشريعي الأخير في المستقبل، في فرنسا، بإلقاء القبض على أي مراقب، أو حتى صحفي، بطريقة تعسفية تماماً، مع محاولة التستر على أي معلومات حول الزيادة الهائلة في هذه المخالفات المرتكبة من قبل قوات الأمن الفرنسية. في هذه الأثناء، يُترك مرتكبو الجريمة في فرنسا في حالة إفلات تام من العقاب، ولا يُستهدف سوى الفرنسيين المجنّسين عندما يحاولون منع تجار المخدرات من إرهاب أحيائهم.

علاوةً على ذلك، تفيد المعلومات بظهور حالات غريبة تثبت تورط أجهزة مكافحة الإرهاب الفرنسية في إساءة استخدام السلطة، بما في ذلك اغتصاب أطفال فرنسيين. هذا في حين تبيّن أن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي عرقلت التحقيقات الأمريكية لمكافحة الاعتداء الجنسي على الأطفال في قضية جيفري إبشتاين، مع اختفاء أكثر من 50.000 طفل كل عام، في فرنسا، وأكثر من 150 ألف حالة اغتصاب. ولربما ينبغي على الرئيس ماكرون أن يبدأ في القلق بشأن ما يجري في بلاده، بدلاً من الذهاب بشكل محرج للزج بنفسه في التحريض الدعائي ضد بيلاروسيا.

في هذه الدولة الفرنسية “القوية على الضعيف والضعيفة أمام الأقوياء”، والتي حُوِّلت حالياً، على يد ماكرون وأتباعه، عن وظيفتها الأولية المتمثلة في حماية الشعب، لم يعد للفحش أي حدود، فها هو ماكرون نفسه يدعي اليوم أنه يعطي دروساً لبيلاروسيا، في حين يدرك الرأي العام الفرنسي أن الدولة الفرنسية تتعرض للاختطاف بشدة، وأن تصرف ماكرون غير جدير أبداً بما كانت عليه فرنسا حتى وقت قريب، فلم تعد صالات الإليزيه تستخدم للدبلوماسية العظيمة، بل أصبحت قاعات رقص كئيبة لأكثر “الفنانين المتحولين جنسياً سخافةً، والذين يمكن للمرء أن يجدهم في فرنسا”، على حد تعبير أحد المحللين..