مجلة البعث الأسبوعية

لو أنجزناها لما اشتعلت أزمة المحروقات.. المصفاة الثالثة مثال على هدر فرص التوجه شرقاً

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

ليست المرة الأولى التي تشتعل فيها أزمة المحروقات، فالحكاية طويلة عمرها عقود وليس سنوات قليلة، وطالما الأمر يتعلق باستيراد المادة فإن الأزمة لن تخمد لمدة طويلة، فأي خلل في الإمدادات يعني اشتعالها من جديد، لأشهر أو لأسابيع عدة. ولوعدنا إلى الماضي البعيد، لاكتشفنا أنه مامن شتاء بارد مر بدفء على السوريين، والحجة دائماً كانت “التهريب”، ومنذ سنوات “صعوبة الاستيراد”.

وعندما تتعطل، أو تتوقف، عملية التكرير، في مصفاتي حمص وبانياس، تشتعل الأزمة أكثر فأكثر، ليس في الشتاء فقط، وإنما في ذروة القيظ أيضاً، كما حصل في الأسابيع الأخيرة.ولربما لم نكن نمر بأزمة خانقة في السابق ،عندما كانت تجري عمليات الصيانة، أوالعمرة، لإحدى المصفاتين، فالاستيراد السهل كان يحول دون اشتعال أزمة محروقات. وبما أن احتياجاتنا من المحروقات تتزايد، ولا تتناقص، فقد لحظت الخطط “الورقية” منذ تسعينيات القرن الماضي توسيع مصفاة حمص من جهة، وإقامة مصفاة ثالثة من جهة أخرى.ولكن.. لم تكن الحكومات السابقة جدية، أو ميالة، لإقامة مصفاة جديدة، فهي اختارت الحل الأسهل، أي استيراد المحروقات، وغالباً كان خيارها انصياعاً لرغبة كبار المستوردين المتنفذين الذين لايزالون يضعون “فيتو” كبيراً على إقامة المصفاة الثالثة!

 

خيار التوجه شرقاً!!

وقد سبق للحكومات السابقة، منذ بدء فرض العقوبات على سورية في ثمانينيات القرن الماضي، أن لوحت بالتوجه شرقاً كخيار بديل عن الغرب، لكنها لمتفعل الكثير لترجمة خيار الشرق إلا في حالات ضرورية جداً.

وكان يمكن تطوير قطاعنا العام الصناعي والإنشائي في تسعينيات القرن الماضي، من خلال شراكات مع دول صديقة وحليفة، دون أن تتحمل خزينة الدولة الكثير، لكن مامن حكومة فعلتها، لأن الرهان كان دائماً على عروض غربية، أوعربية حليفة للغرب!

وحتى قانون الاستثمار رقم 10 للعام 1991 كانهدفه جذب استثمارات أجنبية غربية لاشرقية، ومع أن التجربة لم تنجح – كما راهنت الحكومات السابقة – فإنها لم تتعلم من التجربة متجاهلة أن أكبر المستثمرين في أمريكا هم من “الشرق”، لا الغرب!!

وكان الخيار الكارثي، في النصف الثاني من العقد الأول،بالابتعاد عن الشرق والانحياز للغرب من خلال تبني سوق الاقتصاد الليبرالي، وكانت نتائجه مدمرة من خلال اعتماد الاقتصاد الريعي والخدمي وإهمال الاقتصاد الإنتاجي.

ولم يكن قرار إقامة مصفاة ثالثة بمنأى عن سياسات الحكومات السابقة التي لم تكن جدية حيال أي فرص قادمة من الشرق، لذا رأيناها تتخذ قرارات بإقامةالمصفاة على الورق،لترسلها فوراً إلى الأدراج المنسية، بانتظار أن يأتي عرض لإنجاز المصفاة من الغرب، وهذا أمر لم يتحقق حتى الآن!

ولو أقدمت حكومة واحدة، خلال العقود الثلاثة الماضية، على الموافقةعلى عرض من الشرق لإقامة المصفاة الثالثة، لما شهدنا اشتعالاً لأزمة المحروقات إلا بحدود ضيقة جداً، بل كان يمكن لسورية أن تصدر المحروقات لدول الجوار بدلاً من استيرادها كرمى لعيون بضعة متنفذين يعترضون أن تتوقف سورية نهائياً عن استيراد المحروقات كإيران مثلا!

 

أزمة بسبب الصيانة

وعندما تكشف وزارة النفط أن سبب أزمة المحروقات الأخيرة هو أعمال الصيانة والعمرة لمصفاة بانياس فهو اعتراف بأن الحكومات السابقةقصرت جداً ببناء المصفاة الثالثة، بل والرابعة، لأنها رفضت العروض الشرقية، ليس في مجال النفط فقط، وإنما في مجالات أخرى كثيرة آخرها العروض المتعلقة بالإعمار وإعادة بناء القطاع الصناعي العام.

وكان بناء مصفاة جديدة ضرورياً جداً لتكرير إنتاجنا من النفط لتأمين الاحتياجات المحلية وتصديرالفائض،خاصة وأن إنتاجنا لم يكن بالكميات الكبيرةلتصديره خاماً. وبفعل هذا الواقع، تحولت أعمال الصيانة الدوريةللمصفاة إلى عملية بطولية لأنها كانت بمثابة المنقذ لإطفاء نيران أزمة المحروقات. وبدلاًمن أن تناقش الجهات المسؤولة إحياء إقامة مصفاة ثالثة،انشغلت بمتابعة “العمرة”، كخيار دائم وأبدي، لإنهاء أزمة المحروقات.. ربما لأنها تفضل العيش في وهم عودة عمليات الاستيراد بالراحة، كما كان عليه الوضع منذ عقود. ولولا قلة من الحياء لألقت الجهات المعنية مسؤولية أزمة المحروقات على إدارة مصفاة بانياس وعمالها وفنييها، متجاهلة أن هذه العملية تأخرت إلى حد لم تعد المصفاة قادرةعلى التكرير.

وجميل جداً أن يقول رئيس الحكومة أننا”بجهود عمالنا وكفاءاتنا الوطنية قادرون على تامين كل متطلبات العمل والإنتاج وإعادة الإقلاع بالشركات والمؤسسات المتوقفة، وتأمين احتياجات أبناء شعبنا الأساسية”.. لكن الأكثر جمالاً أن يناقش مجلس الوزراء – بأسرع مايمكن – خيار التوجه شرقاً، أي إلى إحدى الدول الصديقة أو الحليفة المستعدة لبناء مصفاة ثالثة على الأقل،وبأسرع مايمكن، كي نجتث نهائياً اشتعالاً جديداًلأزمة المحروقات!

نعم.. أعمال العمرة والصيانة تحتاج إلى وقت محدد، وكان يمكن أن تنجز بهدوء،وبلا ضجيج إعلامي، لوكانت هناك مصفاة ثالثة تحول دون نشوب أي أزمة. وعندما نعرف أن المصفاة تنتج الغاز المنزلي والكيروسين والمازوت والفيول، وغيرها من المشتقات النفطية، ندرك أهمية تأمين هذه المواد محلياً، لاعن طريق الاستيراد، ولو كان لدينا مصفاة ثالثة لما عرّضت الحكومات السابقة السوريين لأي أزمة محروقات، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.. نعم أزمة المحروقات عمرها عقود، وليس سنوات!

 

الفصل الأول من حكاية طويلة

بدأت حكاية المصفاة الثالثة- وهي فعلاً حكاية – منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ توقعت الحكومة آنذاك أن قانون الاستثمار الذي تضمن الكثير من التسهيلات والإعفاءات سيجذب الاستثمار الأجنبي، ولا سيما في قطاع النفط،لكن الأمر لم يُسل لعاب أي مستثمر غربي، في حين لم تكترث حكومة التسعينيات لعرض مشروع إقامة مصفاة ثالثة على أي بلد صديق أوحليف، بل إنخيار التوجه شرقاً لم يكنمطروحاً حينها على الرغم من فرض عقوبات على سوريةمنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وكان علينا أن ننتظر حكومة 2003–2011، التي اختارت تطبيق نهج اقتصاد السوق الليبرالي الريعي، لنشهد الفصل الأول من حكاية المصفاة الثالثة، من خلال عرض بدا جدياً لإقامة مصفاة نفط جديدة؛ ففي جلسته، المنعقدة في 26/6/2006، وافق المجلس الأعلى للاستثمار على تشميل مشروع انشاء مصفاة لتكرير النفط في دير الزور، بأحكام قانون الاستثمار رقم10،على شكل شركة مساهمة مغفلة تقدر تكلفتها الاستثمارية بحدود88 مليار ليرة سورية.

ووقعت وزارة النفط والثروة المعدنية، في أيار 2007،مع شركة نور للاستثمار المالي الكويتية مذكرة تفاهم تتولى بموجبها الشركة تشكيل تحالف مالي بقيادتها يضم رجال أعمال ومؤسسات وشركات حكومية سورية وعربية وأجنبية بغرض إقامة وتشغيل مصفاة دير الزور، باستطاعة تقدر بـ 140 ألف برميل يومياً. وأوضحت الشركة الكويتية أن مدة تنفيذ المشروع من 3 إلى 4 سنوات، وتقدر تكاليفه الأولية بـ 1.5 مليار دولار، وسيلحظ تصميم المصفاة إمكانية تكرير مزيج النفط الخام السوري الخفيف والثقيل،بنسبة 50 بالمئة لكل نوع.‏

في 5/11/2007، وقعت شركة نور للاستثمار المالي الكويتية، من خلال شركة نور للنفط التابعة لها، مع شركة وود ماكينزي البريطانية، على اتفاقية دراسة مصفاة دير الزور المزمع إقامتها بطاقة 140 ألف برميل يومياً، وذلك في فندق شيراتون دمشق.

وأكد حينها نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، الذي حضر التوقيع، أن هذا المشروع يعد من المشروعات الاقتصادية المهمة، نظراً للنمو المتزايد في الطلب على الطاقة، لافتاً إلى أن الحكومة ستقدم أفضل الشروط اللازمة والممكنة لإنجاح هذا المشروع، لأنه يأتي ضمن خطط واستراتيجيات الحكومة السورية لدعم قطاع الطاقة وتنمية المنطقة الشرقية.‏

وانتهى الفصل الأول بغموض محير.. فلم يعدأحد يسمع بالعرض الكويتي المطعم غربياً، والمدعوم حكومياً!

 

الفصل الثاني: فنزويلا وإيران

الفصل الثاني في حكاية المصفاة الثالثة بدأ مباشرة في أيلول 2006، فقد كشف وزير النفط السابق أنه بحث مع نظيره الفنزويلي مشاركة فنزويلا في إنشاء المصفاة الثالثة في سورية، وفق ما اتفق عليه خلال زيارة الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، إلى سورية.ولتأكيد جدية الحكومة بإيجاد مصادر تمويل أكثر للمصفاة، كشف وزير النفط أيضاًأنه عقد اجتماعاً مع وزير النفط الإيراني تم فيه مناقشة إمكانية المساهمة في مشروع المصفاةالثالثة.

الملفت غياب الشفافية، بل وتقصد الغموض، في هذا الفصل، وبالتالي لانعرفإن كانت وزارة النفط بحثت إمكانية إقامة المصفاة الثالثة بمشاركة أحادية من فنزويلا وإيران، أم بمشاركة الدولتين معاً،ولكن المؤكد أن المباحثات لمتتطور لتوقيع عقود لامع إيران ولا مع فنزويلا!

 

الفصل الثالث: مصفاتان بتوقيع الخاص

بعد انتهاء الفصلين، الأول والثاني، من حكاية المصفاة الثالثة، أسدلت حكومة 2003 – 2011 الستارة على المسرح دون أي تعليق، أوتفسير، ولم نعدنسمع أي كلمة حول مصير الاتفاقية الموقعة مع شركة كويتية، ولا أي جديد في المباحثاتمع كل من فنزويلا وإيران بشأن المصفاة الثالثة. وفجأة..بدأ الفصل الثالث، في العام2019، بلا أي مقدمات، فقد وقعت وزارة النفط و”رجاال أعمال” اتفاقية لتأسيس مصفاتين جديدتين ستنفذهما شركتا”مصفاةالساحل” و”مصفاة الرصافة”،قيمةكل منهما 10 مليارات ليرة سورية.

 

الملفت أن تفاصيل هذه الاتفاقيات تنقصها الكثير من الشفافية والمكاشفة وهي تتضمن بعناوينها العريضةتأسيس شركة مشتركة مساهمة مغلفة خاصة لإنشاء وتشغيل وإدارة مصفاة لتكرير النفط المتكاثف (شركة مصفاة الساحل)، تأسيس شركة مشتركة مساهمة مغفلة خاصة لإنشاء وتشغيل وإدارة مصفاة لتكرير النفط الثقيل”الرصافة، إضافة إلى تطوير وتوسيع مصب النفط بطرطوس، وإنشاء منظومة جديدة لنقل النفط وإعادة تأهيل وصيانة منظومة نقل النفط القائمة.

والسؤال هنا: ماالآلية التي نفذتها وزارة النفط لتوقيع هذه الاتفاقيات؟

إلا أن السؤال الأهم: لماذا لم تطلب وزارة النفط من دول صديقة وحليفة، ولها باع طويل في الصناعة النفطية، بتنفيذ هذه المشاريع كروسيا والصين وإيران؟ ألا يؤكد كل ذلك أن التوجه شرقاً لايزال مجرد شعار على الورق فقط؟

 

آثار أزمة المحروقات

لاتقتصر تداعيات أزمةالمحروقات على الطوابير الطويلة أمام محطات الوقود، واضطرار أصحاب السيارات للانتظار ساعاتعدة للفوز بـ “تنكة” بنزين، مع مايسببه ذلك من هدر للوقت والمال،فهناك آثار عميقة خدميةوإنتاجية لانظن أن الحكومات السابقةدرستها، أو أخذتها بعينالإعتبار عند مناقشة إقامةالمصفاة الثالثة.

مثلاً.. أصحاب سيارات الأجرة والخدمة رفعوا سعر النقل بدل تعويض الانتظار في الطابور،وتجار السلع والمواد،باختلاف مسمياتها، رفعوا أسعارها بذريعة ارتفاع أجور نقلها،والجولات الميدانية لوحدات الإرشاد الزراعي تتوقف، وبالتالي تلحق الضرر بالقطاع الزراعي،خاصة وأن الثروة الحيوانيةتحتاج إلى الأطباء البيطريين، وأعمال الري التي تستخدمالمحركات تتوقف، أوترتفع تكاليفها، مايعني زيادةحتميةعلى السلع الزراعية؛ واتحاد الفلاحين أكد أن مخصصات الفلاحين من المازوت تكفي 50% من حاجتهم الفعلية، مايعني تأمين الباقي بـ “السعر الأسود”، أي رفع تكاليف المنتجاتأوإتلاف آلاف الدونمات، وافتعال الحرائق في الحراج والغابات لاستخدامحطبها بالتدفئة بدلاً من المازوت المفقود، أو المقنن الذي لايكفي العائلة في الجرود أكثر من شهر!

 

الكرة لاتزال في ملعبنا

خلال الإجتماع الذي عقديوم 28/9/2020، بين اللجنة المركزية للتصدير في اتحاد غرف التجارة السورية من جهة،ومديري البيت التجاري القرمي السوري من جهة أخرى، بحضور رئيس الملحقية التجارية والاقتصادية في سفارة روسيا الاتحادية بدمشق، جيورجي كوبزار، اكتشفنا إمكانية معالجة موضوع التحويلات النقدية، وإزالة المعوقات من عمليات نقل البضائع، وإزالة المعوقات التي تسهم في تأخر البضاعة وتضررها.. إلخ.والمهم في هذا الإجتماع كان وجود مقترح لإنشاء شركة مشتركة للنقل تكون كفيلة بحلّ جميع المعوقات التي تواجه عمليات النقل، حيث تعاني الشحنات القادمة من سورية اليوم، والمحملة بمعظمها خضراً وفواكه، من تأخير على الطريق، ما قد يؤدي إلى تضرر البضاعة أو جزء منها، وبأن الشحنات تستغرق أحياناً أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع.

وأعرب الملحق التجاري عن أمله بمعالجة الموضوع بأسرع وقت ممكن، مضيفاً أنه “يمكن للمسؤولين في القرم زيارة سورية لبحث الأمر مع وزارة النقل، فالكرة اليوم بالملعب السوري!”.

ونزيد منجهتنا التالي: الكرة الخاصة بإقامة مصفاة ثالثة، ورابعة، بقيت في ملعب الحكومات السابقةمنذ عشرين عاماً على الأقل، وهي لاتزال بانتظار حكومة تعيدها إلى “الشرق”، ليعيدها بدوره على شكل مشروع يدخل مرحلةالتنفيذ الجدي كترجمة فعلية – لاورقية – لخيار التوجه شرقاً!