ثقافةصحيفة البعث

“درب السما”.. الجمال في مواجهة البشاعة

بين الرومانسية والواقعية، المذهبان المتضاربان في مفهوم كلّ منهما لطبيعة الفن، نسج المخرج السوري جود سعيد فيلمه “درب السما” الذي ساهم في كتابته كل من رامي كوسا وسماح القتّال، وأيضاً باقتراحات وتبادل وجهات نظر مع بطل الفيلم النجم أيمن زيدان.

“درب السما” حكاية من حكايات الواقع السوري، شخصية “الأستاذ زياد” التي شَخصّها النجم أيمن زيدان، إنها ببساطة الشخصية المضادة للبشاعة؛ أستاذ وربّ أسرة بسيطة، تراه في مختلف المجتمعات المحلية، بشكل خاص تلك المجتمعات الموجودة على حواف المدن، أو في الريف، لكن تلك الشخصية في مضمونها وما تفكر وتفعل، تحمل بُعداً أكثر من إنساني، بل إنه يتخطاه ويخترع له أبعاداً جديدة، تمدّ جسوراً للتواصل مع كل ما هو قيّم ونبيل، وهذه الشخصية سوف تخسر كل شيء تقريباً، لكنها لا تريد مبارحة مكانها، موطنها، موئل روحها، إلا أن الواقع الدامي الذي ضربه الإرهاب في الناس، سيكون له دوره الذي شهدنا وعلى قرابة العقد من الزمن، على وحشيته المسعورة.

الأستاذ زياد، لم يعد قادراً على تحمّل كل الضغوطات الهائلة، التي وقعت على أكتافه وقلبه، فالابنة التي أحبّت ابن الجيران في الحارة التي عاش فيها المربي الفاضل وكبر فيها، وأحبّ وتزوج وأصبح أباً، وقضى حياته المهنية كمعلم، وُجدت مشنوقة، وزوجها الذي انضم إلى إحدى الجماعات المسلحة الإرهابية بفعل الأمر الواقع، ثم انفضّ عنها بعد أن فاز نداء الحب في روحه على صوت الحرب وواقعها المريع، فكانت النتيجة المأساوية التي شاهدها البطل “الرومانتراجيدي”، وها هو يُمتحن في أشد ما يُمتحن به المرء، ابنه، وها هي ابنته، زهرة روحه، مُعلقة بلا روح كدمية، هي ومن أنقذته بقلبها من خراب روحه، لكنه البطل الرومانسي في مواجهته لما يعتريه من خطوب، وعلاقته بالمكان بما يرمز إليه هاهنا، هي أقوى من أن تقطعها ظروف غاية في القسوة والبشاعة، كالتي سبق ذكرها.

بعد أن استولت العصابات الإرهابية، على حارته، كان من بين “الفرمانات” التي أصدرتها، أن يُغادر الحارة كل شخص ليس منها أصلاً؛ مباشرة في الطرح لا تتخفى وراء الرمز، وهي نقطة يمكن أن تؤخذ على الحكاية، خصوصاً أنها تحتمل تأويلاً مضاداً، لكنه مقطع عرضي من الواقع، فكان الردّ على قبح هذا الواقع بما لا يشبهه أبداً، بل بما هو نقيضه. الأستاذ زياد، يحمل جثمان ابنته ويُغادر المكان الذي هو فضاء روحه كما كان يعتقد، لا لخوف من موت أرعن، بل لأنه ليس من أبناء الحارة على الورق والقيود، أيضاً في إسقاط مهمّ على ما أرخت الحرب من خراب في النفوس قبل الأمكنة، فلم نعتد يوماً كسوريين، قبل هذه الحرب اللعينة، أن تكون علاقتنا بأي مكان في جغرافيا البلاد، علاقة على الورق إلا للمعاملات الرسمية! وهذا ما يعيه البطل ومنذ نعومة أظافره، في “الحارة الشعبية” التي يحيّا وأهله فيها، حتى أنه قام بدفن زوجته في ترابها، وهذا فعل من يؤمن فعلاً أنه في مكانه وبين أهله، لتكون كل الضغوط وقسوة الحياة، والامتحانات المهولة التي مرّ بها وأسرته، من فقدان ابنه لساقه، وفقدان زوج ابنته لبصره، ثم موت ابنته الفجائعي، بسبب المكان الذي يحيا فيه ويأبى مغادرته، “الحارة” لما لها من بُعد رمزي أوسع وأشمل في دواخله ووجدانه.

الضغوطات الكبيرة التي لم تفلح على فداحتها، في إقناعه بالضرورة المصيرية لمغادرة المكان، لم تعنِ له شيئاً، انكسرت ملامحه قليلاً، تبدلت هيئته، لكنها لم تغيّر ما في قلبه، حتى جاءت لحظة الانكسار الحقيقية للشخصية، العصابات التي استولت على الحارة، القرية، المَضارب – الوطن الأصغر – فرضت بألا يبقى في المكان إلا أهله “الأصليون”، وهكذا يجد البطل نفسه مهزوماً من الداخل للمرة الأولى، عندما غادر وأبناؤه والعديد من سكان الحارة منها، اختار وأسرته العودة إلى القرية، مسقط الروح، تلك التي غادرها منذ زمن بعيد، أملاً بالعزاء في مفارقة عاشق ومعلم وأب، للمكان الذي ألفه كراحة يده، فبيت العائلة في القرية، البيت القديم المهجور، سيضمّه وأسرته أو من تبقى منها، وابنة صديقه “أبو محمد” –لعب الشخصية الفنان جرجس جبارة- الذي كان خير جارٍ ومعين للأستاذ زياد في محنته، إنهما أصدقاء العمر، لذا لم يتردّد بأن تفارقه ابنته مع الأستاذ زياد، أملاً من الرجل في أن تتابع ابنته تحصيلها العلمي بإشراف صديقه حيث سيذهب، لإدراكه بأن الحياة التي عرفها في حارته، لن تعود كسابق عهدها، وتعطيل المدارس بالقوة، لن يكون استثناء.

هنا سننتقل بصرياً من البيوت المدمّرة، والحياة القاسية التي جاءت في القسم الأول من الفيلم، إلى قرية الأستاذ زياد، إلى بيت العائلة، الذي يقع في مكان طبيعي خلاب، الجمال المبهر هناك، حيث الجبال التي يعبرها الضباب، سيؤنس الحزن في قلبه، لكن العودة إلى منهل الشهيق الأول، لم تكن إلا بداية لكوابيس واقعية متلاحقة، فالأخ الأصغر الذي غادر الأستاذ زياد بيت أهله بسببه، ليس سوى لص وقاطع طريق ونهاب لقوت أبناء قريته، متاجر بدمائهم، مُغتصب لبناتها، بزواج كان عقد قرانه تحت التهديد بالموت في حال الرفض، ولن تعنيه أن تكون نتيجة ذلك الزواج في الليلة الأولى منه، انتحار “العروس” على سرير الزوجية وهي في فستان عرسها، هذه الشخصية أيضاً بما تحمله من رمزية في وجدان معظم الشعوب، عن الأخوين اللذين قتل أحدهما الآخر، في بداية الوجود البشري، طمعاً بما لديه، لا “ثورة” على ظلمه.

في القرية لن تكون الحياة أفضل بسبب ظروف الحرب التي امتدت إليها أيضاً، وما تركت فيها من فساد، صار الأخ “أدى دوره حسين عباس”، واحداً من أهم رموزه، وما حاول أن يسرقه من أخيه بالحيلة، كالبيت والأرض، سرقه بأرخص أسلوب، وذلك بأن يتهم أخاه زياد، بأنه يحيا مع فتاة قاصر في البيت، يرضى الأستاذ زياد أن يأخذ أخوه الأرض، على ألا يشوّه سمعة تلك الفتاة، التي هي أمانة في عنقه، مثلها مثل أولاده، ولسوف يعثر على شيء من المواساة في ملامح حب جمعه بشخصية مديرة المدرسة، -أدت دورها صفاء سلطان- وفي اليوم الذي من المفترض أن يكون يوماً للفرح، بزواج ابنه وزواجه أيضاً، جاءت قذيفة في البيت حيث يُقام حفل عائلي صغير بهذه المناسبة، عندها ستظهر مقولة الفيلم الأهم على لسان بطله، ليصرخ وسط الدمار “غنوا”، لينتهي الفيلم، في حالة رمزية تشكيلية، فمن الذقن البيضاء للأستاذ زياد، سيبدأ البياض ينتشر رويداً رويداً، حتى يغطي الشاشة الذهبية، إنه السلام المنشود، وهو ما ارتأى المخرج أن يكون رسالته في “درب السما”.

يؤخذ على الفيلم بعض من النقاط، منها الحوار الذي غلبت عليه اللغة الشعرية، لكن جوهر الفكرة، هو وضع كل ما هو جميل وخيّر، في مجابهة كل ما هو قبيح وبشع في الحرب، وهذا ما نقله الفيلم للجمهور، فالحب ينتصر على الحرب، وبه فقط تكمن النجاة.

تمّام علي بركات