طائر النورس محمد عنقا: الجرأة والواقعية من أسباب نجاح”حكم العدالة”
“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس
عشق الإذاعة منذ صغره وأخلص لهذا العشق. عمل في إذاعة دمشق منذ ستينيات القرن الماضي، وفيها تنقل بين مجالات عديدة، فعاصر أهم العاملين فيها، وتعلم منهم ليصبح في رصيده اليوم – كمخرج مسلسلات إذاعية – أكثر من 1500 عمل، وله في مكتبة الإذاعة ما يفوق أربعة آلاف عمل. وعلى الرغم من تقاعده الوظيفي إلا أنه ما زال مستمراً في إخراجه للمسلسل الشهير “حكم العدالة”، وبرامج أخرى لإيمانه أن الفنان لا يتقاعد طالما أنه قادر على العطاء.
عاصرتَ وعملتَ مع مخرجين كبار أمثال ممتاز الركابي ونذير عقيل وسهيل كنعان ومحمد صالحية وفاروق حيدر وتيسير السعدي.. ماذا تعلمت منهم؟ وما الذي كان يميزهم؟
عملتُ في إذاعة دمشق منذ العام 1964، وكان عملي في ذلك الوقت التسجيل والمونتاج، كما عملت مساعد مخرج مع مجموعة كبيرة من المخرجين الكبار، واستفدتُ من خبرتهم الإذاعية كثيراً.. بعد ذلك بعشر سنوات، بدأت كمخرج إذاعي، وأثناء عملي كنت أتذكر ملاحظات هؤلاء الكبار إلى الممثلين، وطريقة إخراجهم للبرامج، وكيف يتعاملون مع الدراما الإذاعية بشكل صحيح.. كان كل يوم يمر عليّ أتعلم شيئاً، وأنا أعتز وأفتخر بهذه السنوات التي قضيتها مع هؤلاء الكبار، لأنها كانت حافلة بالعطاء الفني كتابةً وإخراجاً.. الخبرة المتراكمة التي كسبتها منهم أدت إلى تحسين عملي في الإخراج الإذاعي، وأذكر أن أول برنامج قدمته كان عام 1975، وهو برنامج “رسالة المهجر”، ثم برنامج “الحب والحياة”. بعد ذلك اتجهتُ إلى التأليف الإذاعي، فكتبتُ مسلسل “الزوج الخالد” – من إخراج مروان عبد الحميد، ومن ثم مسلسل “ابن زيدون” – من إخراج طلحت حمدي، وبعد ذلك تابعتُ كتابة المسلسلات الإذاعية والتمثيليات القصيرة.
في رصيدك العديد من المسلسلات والتمثيليات والبرامج.. أية خصوصية تتمتع بها كمخرج؟ وكيف يتجلى الإبداع في النص من خلال المخرج؟
المخرج الناجح هو الذي يفهم النص جيداً، وبعد قراءته يستطيع انتقاء الشخصيات والموسيقا والمؤثرات المناسبة.. الإبداع في الإخراج – كالإبداع في أي من الفنون – يحتاج إلى الإتقان والمهارة والموهبة، فدون موهبة حقيقية لا يمكن أن يتحقق النجاح، وأضيف إلى هذه الشروط شرط الإخلاص في العمل، وهو شرط أساسي لنجاح أي عمل.
يتحدث الكثير من العاملين في الدراما التلفزيونية عن وجود أزمة نص جيد.. هل ينطبق ذلك على الدراما الإذاعية؟
نحن نفتقر إلى النص الجيد، ودائماً دائرة الدراما الإذاعية تتصل مع الكتّاب، سواء في دمشق أو المحافظات، وتطلب منهم الكتابة إلى الإذاعة. ومؤخراً، تم التعامل مع مجموعة من الكتّاب الجدد، أمثال: وليم عبد الله، نادين خليل، بشرى عباس، د. منيرة خضر، إضافة إلى استمرار التعامل مع الكتّاب الذين يتعاملون مع الإذاعة بشكل دائم.
“حكم العدالة” من العلامات الفارقة لإذاعة دمشق وقد تتالى على إخراجه مروان قنوع، وفهمي البكار، ونذير عقيل، ومظهر الحكيم، وزياد مولوي، ورفيق سبيعي، وعادل عبد الوهاب.. ما الذي ميز إخراجك عن الآخرين؟
أشكر جهود الزملاء المخرجين الذين تناوبوا على البرنامج، فهم زملاء أعزاء، تربينا في بيت واحد هو إذاعة دمشق، إلا أن ما يميز الإخراج الإذاعي والدرامي، عموماً، هو أن لكل مخرج روحه الخاصة به، ونكهته الإخراجية، ابتداء من انتقاء الموسيقا مروراً بتوزيع الأدوار واختيار الممثلين وانتهاءً باللمسات الأخيرة ووصولها إلى المستمع.. وهذه الروح الفردية هي ما يميز أحدنا عن الآخر، وكل مخرج له أسلوبه وطريقته، وأنا لي أسلوبي وراضٍ عنه.
طالما تطرقنا إلى “حكم العدالة”.. ما سر استمرارية هذا البرنامج حتى الآن؟
يتصف “حكم العدالة” بالجرأة والواقعية، وهذا أحد أسباب نجاحه، إضافة إلى المواضيع المأخوذة من الواقع المعيشي والمحبوكة بأسلوب درامي بوليسي مشوق، وأحب أن أقول أن نجاح البرنامج يعود الفضل فيه للراحل هائل اليوسفي، وكذلك المحامي منيب هائل اليوسفي الذي سار على خطى والده نفسها في كتابة الدراما من خلال الحوار السريع والجمل الرشيقة، وقد حافظ على الوتيرة الدرامية التصاعدية في التشويق من أول الحلقة إلى نهايتها، كما أن نجاح البرنامج هو نتيجة حتمية للعمل الدؤوب على أسس موضوعية وتعاون الجميع.
تم تحويل هذا البرنامج تلفزيونياً ولكنه لم يحقق النجاح المطلوب.. لماذا؟
لا أريد أن أخوض في هذا المجال حتى لا أتهم بتحيزي إلى الإذاعة، ولكن أقول أن البرنامج لم ينجح تلفزيونياً رغم كل الإمكانيات التي وضعت له، والسبب هو أن المتلقي في الإذاعة يتخيل الجريمة والأحداث والمكان والزمان والأشخاص بطريقته الخاصة، أما في التلفزيون فيشاهدها بشكل مباشر.
كيف تفسر غياب الأعمال الدرامية في الإذاعات الخاصة المنتشرة اليوم بكثرة؟
السبب هو في صعوبة الإنتاج بالنسبة للإذاعات الخاصة، فتكاليفه الباهظة تحول دون إنتاج أي عمل درامي إذاعي، إلا أن بعض الإذاعات الخاصة وعت أهمية الدراما الإذاعية فسارعت إلى اقتناء بعض الحلقات الإذاعية، وبثتها على أثيرها بعد التواصل مع وزارة الإعلام، وأعتقد أن الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ترحب بأي مقترح لاقتناء الدراما الإذاعية وتسليط الضوء عليها، وذلك من أجل انتشار هذا الفن الذي ما زال إنتاجه من قبل القطاع العام فقط، ولم يتقدم القطاع الخاص بكل إمكانياته الكبيرة في إنتاج أي عمل درامي إذاعي.
في عصر التلفزيون والفضائيات ووسائل التواصل.. أية مكانة تحتلها الإذاعة؟
في عصر التلفزيون والفضائيات أصبحت مهمة الإذاعة في غاية الصعوبة لاستقطاب المستمعين، ومع ذلك فإن برنامجاً وحيداً في إذاعة دمشق استطاع أن يخترق هذه الصعوبة ويتفوق على الشاشة التلفزيونية في استقطاب الجمهور، هو برنامج “حكم العدالة”، والدليل على ذلك حصوله على عدد من الجوائز في القاهرة وتونس والعراق، إلى جانب برامج عديدة حصلت على جوائز وميداليات في مهرجان مختلفة، سواء داخل القطر أو خارجه.
ما الذي تغير في الإذاعة بعد الورشة التي أقيمت بمناسبة مرور 70 عاماً على تأسيس إذاعة دمشق؟
من خلال الورشة التي أقيمت مطلع العام 2019، والتي تم من خلالها الوقوف على مفردات الدراما الإذاعية، من نص وقارئ ومخرج وممثل، بدا الفرق واضحاً من حيث جودة النص، وما زلنا نعمل على رفع مستوى النصوص رغم الأجور المتدنية مقارنة مع الدراما التلفزيونية، لكن دعم وزارة الإعلام لقطاع الدراما الإذاعية جعلها تستقطب كبار النجوم والكتّاب، ولا سيما الكتّاب الشباب الجدد الذين ما زالوا يعملون، كورشة، لرفع سوية النص واهتمام الإذاعات الخاصة ببث الدراما الإذاعية.. إن دائرة الدراما الإذاعية هي الحامل الوحيد للدراما، ومن خلالها تصل لجمهور المستمعين، ومن خلال استبيان للآراء لاحظنا عودة واهتماماً لسماع الدراما، ومتابعة لمعظم البرامج والمسلسلات ولما تنتجه دائرة الدراما الإذاعية، والجديد هو إنتاج مؤسسة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي لأول عمل درامي إذاعي هو “الشعراء العشّاق”، من تأليف محمود عبد الكريم وإخراج باسل يوسف.
بعد خمسين عاماً من العمل في الإذاعة.. ماذا حققت؟
أنا سعيد بأنني ما زلت أعمل في الإذاعة، وعندي برامج عديدة في إذاعتَي “سوريانا” و”صوت الشباب”، وفي دائرة الدراما الإذاعية، والعمر لا يقاس بعدد السنوات، بل بما يُقدِّم الإنسان، وعلى ماذا حصل، فأنا حصلت على جائزة أفضل مخرج عن برنامج “حكم العدالة” في مهرجان القاهرة عام 1996، وكذلك جائزة مخرج مبدع عن مسلسل “حي الصالحية” في مهرجان القاهرة عام 1998، وحصلتُ أيضاً على الجائزة التقديرية عن “حكم العدالة” في تونس عام 2005، وجائزة تقديرية عن البث المباشر، في القاهرة أيضاً، عام 2001، وكذلك جائزة عن “حي الصالحية” من مهرجان الغدير في العراق عام 2012.
ما الذي تغير فيك بعد التقاعد؟ وماذا تقول لمن يعمل في الإذاعة الآن؟
أنا الآن متقاعد من الوظيفة ولستُ متقاعداً من العمل الإذاعي، فالفنان لا يتقاعد طالما أنه قادر على العطاء، وأنا مرتاح في عملي في الإذاعة، وبما أقوم به، فسعادة المخرج هي في رضا المتلقي عن أعماله، والفنان لا يكتمل إحساسه الإبداعي ما لم يتفاعل الناس معه، وأقول لكل الزملاء الذين يعملون في الإذاعة: من المهم أن يحب الإنسان عمله قبل كل شيء، ويخلص له، وينهل من تجربة وثقافة الإعلاميين الكبار ويستفيد من تجاربهم وأعمالهم.
هل لديك نية لكتابة مذكراتك؟
لا نية لدي لفعل ذلك، خاصة وأنني أملك أرشيفاً كبيراً لكل أعمالي، وقد أصدرت كتاباً بعنوان “حصاد الروض” يضم خواطر أدبية ووجدانية تلامس الواقع المعاش والتجارب التي عشتها.