مجلة البعث الأسبوعية

نكهة الصباح وسيدة المذاقات والأوقات

“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس

يأخذني الصباح إلى شمسه فأجلس إلى فنجان قهوتي الذي يفتح نافذة صغيرة تطل على قلبي ويمنح صباحي دلاله، فالقهوة تمنحنا روحها ليكون مزاجنا في أحسن حاله.. أفتش في ذرات البن عن أثر أتبعه إلى مذاق أضعته في زحمة قهوات الآخرين التي يقدمونها هدية كمذاق هو الأشهى والألذ، لأنه مع ارتفاع الأسعار الجنوني أصبحت القهوة هدية قيّمة و”محرزة”.

 

معرفة أولى

معرفتي الأولى للقهوة تعود إلى المرحلة الإعدادية، حيث كانت والدتي تطلب مني أن أصنع القهوة لها ولضيفاتها؛ وكم كنت أطرب لمديحهن لقهوتي التي لم أكن أعرف ماهو طعمها، وأسعى جهدي في المرات القادمة لكي تليق بمزاج الضيوف. ومنذ ذاك الوقت، وأنا مسكونة برغبة صنع قهوة تناسب مزاجي ومزاج شاربيها؛ لكن تذوقي الأول لها يعود لصباح يوم ربيعي حيث طلب والدي أن أحضر له قهوة يحتسيها مع والدتي على شرفة منزلنا المطلة على طبيعة جميلة.. أحضرتها فدعاني لمشاركتهما، ترددت، لكنه ألح متذرعاً بفكرة أن أتذوق ما صنعته يداي من نكهة عالية المزاج,, امتثلت وأحضرت فنجاناً، وكم فاجأتني ضحكته عندما ملأت نصف الفنجان بالسكر! ومع ذلك لم أستسغها، أعطاني فنجانه لأرشف منه شفة أميز بها طعم القهوة بدون سكر.. خجلاً تصنعت أنها أعجبتني، وبعدها أصبحت أشارك والديّ قهوة الصباح، ولو على مضض.

 

طقسها الأنيق

بعد أن دخلت الحياة العملية، أصبح للقهوة معنى آخر، سحر يبعد الوحدة والإرهاق ويعوّض الغياب، فهي شريك أنيس ودافىء، ثم تحولت إلى طقس يجمعني صباحاً مع مجموعة من أصدقاء العمل، لتصبح تقليداً يومياً نبدأ به نهارنا، وما زاد مذاقها نشوة ترافقها مع الأغنيات الفيروزية، وما زالت القهوة أيقونة الصباح وسيدة الحضور والحوارات بكل أشكالها، تجمعنا وتلم شملنا، فالدعوة على فنجان قهوة تحمل قيمة الدعوة إلى مائدة عامرة، وأصبحت عبارة “تفضل على فنجان قهوة” لازمة يرددها الأصدقاء في كل الحالات والمواقف.

 

المنشأ والمنبت

كل هذه النشوة والمتعة التي تمنحنا إياها القهوة تستدعي في البال أسئلة: مم تتكون القهوة؟ ماهو تاريخها؟ متى عرفها الناس؟ وأين منشؤها؟ لتأتي الإجابات عبر روايات متعددة، منها أسطورة الراعي الذي اكتشفها في إثيوبيا، إذ لاحظ الحيوية المفرطة للماعز التي يرعاها بعد تناولها ثمارا من شجرة معينة. وتم نقل هذا الاكتشاف لاحقاً إلى رئيس دير صنع منها شراباً أبقاه يقظاً خلال صلوات المساء الطويلة، ومن هناك ذاع صيت هذه الثمار بين الرهبان وغيرهم. مع ذلك، لم يُعثر على دليل مباشر يكشف بالتحديد عن مكان نمو القهوة في أفريقيا.

ظهر أقرب دليل موثوق به على شرب القهوة أو معرفة شجرة البن، في منتصف القرن الخامس عشر، في الأديرة الصوفية في اليمن. وقد انتشرت القهوة من إثيوبيا إلى اليمن ومصر وشبه الجزيرة العربية، وبحلول القرن الخامس عشر وصلت إلى أرمينيا وبلاد فارس وتركيا وشمالي أفريقيا، وقد انتشرت القهوة من العالم الإسلامي، إلى إيطاليا، ثم إلى بقية أوروبا وإندونيسيا وإلى الأمريكتين.

يتم إنتاج ثمار البن التي تحتوي عن طريق أنواع عدة من الشجيرات دائمة الخضرة. ويتم قطف حبوب القهوة، وتجهيزها، وتجفيفها. ثم يتم تحميص البذور، قبل مرورها بعدة تغيرات فيزيائية وكيميائية، حيث يتم التحميص بدرجات متفاوتة، اعتماداً على النكهة المطلوبة. ثم يتم طحنها وغليها لعمل القهوة.

وأهم وأفخر أنواع القهوة هي الموكا، وهي تحريف من “قهوة المخاء” نسبة إلى ميناء المخاء الأول، في اليمن، الذي انطلقت منه سفن تجارة البن إلى أوروبا والعالم. ويشتهر البن اليمني بمذاقه الخاص وطعمه الفريد الذي يختلف عن أنواع البن التي تزرع وتنتج في بلدان العالم الأخرى.

تطور استهلاك القهوة عبر ثلاث مراحل، فقد كانت تباع بأثمان زهيدة، فضلاً عن أن مذاق أنواعها المختلفة كان نفسه تقريباً، وفي مرحلة ثانية سعت متاجر القهوة إلى إضفاء مزيج متناسق من النكهات الحلوة، أما في المرحلة الثالثة فقد أصبحت القهوة مجال تخصص، وبات لها منشأ وقصة، إضافة إلى نكهات مميزة، كما أصبح تحميصها فناً يعكس الدقة والعناية التي حصدت بها حبات القهوة.

 

فوائد القهوة

للقهوة فوائد عديدة على الصحة حتى أنها قد تطيل عمرك نظرا لمستوياتها العالية من مضادات الأكسدة والمغذيات المفيدة على غرار الفيتامين “ب2” والمغنسيوم والبوتاسيوم. وقد تكون لها فوائد صحية أخرى، فوفقاً لأحد الأبحاث تساهم القهوة في زيادة معدل الأيض والقدرة على حرق الدهون، علاوة على رفع مستويات الطاقة، كما قد تقلل خطر الإصابة بالنوع الثاني من داء السكري ومرض ألزهايمر وأنواعا معينة من مرض السرطان.

وبالمقابل شرب كميات كبيرة من القهوة يمكن أن يسبب حالات مزعجة جداً خاصة بالنسبة للمسنين، وتصبح آثارها السلبية أكثر انتشاراً عندما تؤخذ بشكل زائد، فالمخاطر الصحية للقهوة تتعلق باحتوائها على الكافيين.

 

أصلها اللغوي

في اللغة العربية، تخبرنا القواميس والمعاجم أن لفظ القهوة مشتق من الفعل قها، ويقال أقْهَى فلانٌ: دام على شُرْب القهوة، أي ارتدَّت شهوتُه عنه من غير مرض. ويخبرنا المعجم الوسيط بأن الفعل أقْهَى يعني دام على شُرْب القهوة، أي داوم على شرابها واعتاد عليها. وفي العربية ترد في الشعر والأدب ثلاثة أشربة باسم القهوة هي القهوة شراب البُن المغلي، واللبن، والخمر.

 

اليوم العالمي للقهوة

يحتفل العالم باليوم العالمي للقهوة، في الأول من تشرين الأول من كل عام، في مناسبة بدأت عام 2015، على هامش فعاليات معرض إكسبو في ميلان الإيطالية، بحسب المنظمة العالمية للبن، إلا أن رواية أخرى تشير إلى أن اليوم العالمي للقهوة بدأ عام 1983 في اليابان. وأطلق هذا اليوم للترويج لتجارة القهوة ورفع الوعي حول محنة مزارع القهوة، وظروف زراعتها والعاملين فيها والأجور. ويقدم العديد من المتاجر القهوة مجاناً، أو بأسعار مخفضة، في هذا اليوم.