التشكيلي غازي أنعيم: القلم والريشة قطبا شخصيتي الثقافية وطبيعي في هذه الظروف الصعبة أن تتضخم الذات وتنمو الشللية
“البعث الأسبوعية” ــ جُمان بركات
الفن نهج حياة، وكل من يبدع في مضماره لابد وأن يستلهم جذوته من العديد من المشارب في رحلته عبر الحياة، وللفنان غازي أنعيم وقفات مهمة أثرت وأغنت أسلوبه الفني والنقدي، نتلمس نبضها في هذا الحوار.
هناك قصاصات ورقية تتحدث عن البدايات.. كيف ينظر إليها ويسترجعها الفنان غازي أنعيم؟
بدأت أقطف ثمار الموهبة في عمر مبكر، أي قبل منتصف السبعينيات – كان عمري 12 عاماً – حيث بدأ تخطيط اليافطات و”الآرمات” يدر عليّ بعض الدخل. في المرحلة الثانوية، بدأت انطلاقة جديدة، إذ عملت مع بعض الأصدقاء على تأسيس جماعة فنية في مخيم البقعة.. عقدنا الورش الفنية والمعارض المشتركة، وهذه التجربة أيقظت ما هو كامن في ذاتي الفنية، لأنني عملت على اكتشاف كل ما هو جديد في عالم الفن التشكيلي من أجل صقل موهبتي ومواصلة التزود بالمعرفة في كلية الفنون. بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة (عام 1979)، قررت دراسة “المحاسبة” لحين تأمين مقعد دراسي في إحدى الجامعات العربية، وكانت محطتي التالية جامعة دمشق.
هل تحدثنا عن تلك مرحلة وجودك في سورية.. وآثارها الباقية حتى هذه اللحظة؟
بالتأكيد هي محطة مهمة في مسيرتي التشكيلية والثقافية، بدأت عام 1980 عندما التحقت بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، قسم الغرافيك، وكان هناك في القسم أساتذة كبار، أمثال الفنان الدكتور غسان سباعي ومصطفى فتحي وعلي سليم الخالد، حيث ساهم الأخير بتغذية ثقافتي التقنية بهذا الاختصاص من الفن، بالإضافة إلى أنني كنت أستمع إلى الموسيقى والشعر، وكان ذلك بالنسبة لي نوع من تحقيق التوازن مع الذات، وتعويض لسنوات الحرمان التي عشتها في مرحلة الطفولة.
في عام 1982، اجتاح الصهاينة بيروت، وتلك الأحداث أثرت في حياتي. في عام 1983 أقمت أول معرض لي في المركز الثقافي السوفييتي بدمشق، واحتوى على ملصقات سياسية فلسطينية وتضامنية مع القضايا العربية وقضايا أمريكا اللاتينية وكذلك الدول الصديقة، وفي العام نفسه بدأت أمارس الكتابة التشكيلية والعمل الصحفي والكتابة في الصحف والمجلات، بالإضافة إلى الإخراج الصحفي وتصميم الأغلفة والشعارات.
بعد حصولي على البكالوريوس – يتابع أنعيم – بدأت مرحلة جديدة في حياتي، سواء على صعيد التعامل مع اللون أو التقنية، وكان تركيزي في هذه الفترة ينصب على التعامل مع ألوان الغواش والأحبار، وقد رسمت بتلك المواد عشرات اللوحات المتضمنة عناصر ورموزاً وأشكالاً تتحدث عن واقعنا وتاريخنا، وجاء توظيف تلك العناصر والرموز والأشكال نتيجة معالجات مختلفة لهاجس واحد هو القضية التي تحققت كفعل إبداعي في كل ما أنجزته وما صورته، واستطعت في هذه المرحلة أن أستنبط شتى المواضيع التعبيرية والرمزية والواقعية، لأطبعها لوناً وخطاً على لوحاتي. وفي عام 1990، انتخبت رئيساً مساعداً للاتحاد العام الفنانين التشكيليين الفلسطينيين – فرع سورية، وتعرفت إلى عدد كبير من الفنانين التشكيليين السوريين، ما أثرى تجربتي الفنية، وقادني إلى اكتشاف ذاتي في الوقت نفسه، ما ولد لدي حافزاً للإنتاج والإبداع.
في عام 1993 – أضاف – غادرت دمشق إلى عمان، تاركاً دمعة ووردة على خد دمشق الياسمين والأحبة، وبدأت أساهم مع الزملاء الفنانين والكتاب في رفع الذائقة الجمالية باللون والخط والكلمة ومحاربة الأمية البصرية ووضع الحركة التشكيلية الأردنية على الخارطة المحلية والعربية.
على صعيد الفن، بدأت في تلك المرحلة – التسعينيات – أسعى لخلق حالة تواصل بين التراث الشعبي القديم والمعاصر من أجل تأكيد الجذور الحضارية، فوظفت الموروث الشعبي بأساليب مختلفة في اللوحة التصويرية والغرافيكية، كما أكدت خصوصية الإنسان في اللوحة من خلال الأدوات والأشياء التي تحيط به – هنا وهناك – من زخارف وحلي وأزياء وأدوات شعبية مستخدمة في حياتنا، لكن القيمة الأساسية لتجربتي في هذه المرحلة تكمن في تسجيل التفاصيل والملامح والجماليات المستمدة من الفنون الشعبية. وفي المحصلة، وعلى مدى ما يزيد عن 35 عاماً، حتى الآن، ما زلت أتواصل مع الفنانين التشكيليين السوريين ومع النقاد، وكذلك مع مجلة “الحياة التشكيلية” التي أكتب فيها بشكل دائم، منذ ثمان سنوات، حيث حرص الزملاء في المجلة بأن تكون مقالاتي وأبحاثي حاضرة في أعداد المجلة.
ما الذي تضيفه لك هذه الحالة من التماهي بين القلم والريشة لك.. وما أثرها على اللوحة الخاصة بك؟
الحقيقة أن الأولوية في انشغالاتي هي المضي قدماً في تنمية ثقافتي البصرية وتكريسها لخدمة الحركة التشكيلية العربية والعالمية، لإخراج من يستحق من الفنانين من الظل إلى مساحة الضوء، كما أنني عندما أتناول أسماء تشكيلية مهمة إنما أحاول تسليط الضوء على تجاربها التي نذرت لها حياتها.
أما بالنسبة للتماهي ما بين القلم والريشة فهما بالنسبة لي خيار متكافئ، ويسيران بإيقاع متساو، وكلاهما يمثلان قطبي شخصيتي الثقافية، ومن الصعب التضحية بواحدة على حساب الأخرى، لذلك لا يوجد ترجيح للحقل النقدي على حساب الرسم، لاسيما أن الكتابة النقدية هي خيار معرفي يأخذ مني وقتاً تماماً مثل الوقت الذي أقضيه أمام اللوحة، لذلك تراني مواظباً على التغذية الفنية والنقدية، وهذا جعلني على دراية وخبرة بما أفعل في حقل الرسم، ما سهل عليّ أيضاً، حل المزيد من المشكلات التقنية والأسلوبية ودفعني قدماً لتحصين تجربتي وضبطها من ناحية الخط واللون والتكوين وحبك اللوحة مع بقية العناصر الفنية. بقي أن أشير أن اللوحة تضيف للفنان أصدقاء ومحبين بشكل مستمر، بينما الكتابة النقدية في الصحافة تشبه السير في حقل من الألغام، بحيث تفقدك الأصدقاء والمحبين، لأن الذين يعملون في حقل التشكيل لا زالوا غير مهيئين لسماع النقد والرأي الآخر، نتيجة اعتقادهم بالكمال.
هل هناك من مشروع وحلم ما زال قيد الانتظار؟ وما هي الخطوات والرؤى؟
حقيقة مجمل ما حلمت به تحقق: دراسة أَكملت، معارض أَقمت، ملتقيات وندوات شاركت، في الصحافة النقدية المحلية والعربية متواجد وحاضر، على صعيد المؤلفات أنجزت ستة كتب، وهناك أربعة كتب في انتظار الطباعة، أسست مجلة “التشكيلي العربي” عام 2014، ثم أسست مجلة “براعم الوطن العربي” عام 2015، وهي متخصصة بالأطفال، وقد ساهم فيها بعض الفنانين السوريين، وكنت رئيس تحرير المجلتين، وترأست رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، وانتخبت نائباً لرئيس اتحاد التشكيليين العرب في الكويت.
بالنسبة للمشاريع التي لم تتحقق.. بالتأكيد هناك مشاريع كثيرة، لكن ما يحكمها أن هناك أولويات، فقد كان عندي حلم بأن أؤسس لسلسلة مكتبة الفن التشكيلي، وتحقق هذا الحلم، وتمت طباعة كتابين من السلسلة، لكن الاختلاف مع دار النشر أدى إلى وقوف هذا المشروع؛ أما المشروع الثاني فهو تاريخ الحركة التشكيلية الفلسطينية من العصر الحجري إلى العصر الحديث، وقد أنجزت منه الجزء الأول والثاني، ونظراً لارتفاع تكلفة الطباعة لم أجد حتى الآن دار نشر تتبنى هذا المشروع الذي توقفت فيه عند مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي؛ والمشروع الثالث الذي كنت أحلم بتحقيقه هو كتاب “ناجي العلي.. الريشة السيف”، وهو يتناول سيرة ومسيرة ناجي العلي في الكاريكاتور، وتزامن صدور هذا الكتاب مع الذكرى 33 لاستشهاد العلي، نهاية شهر أيلول.
هل يمكن لجيل التشكيليين الشباب أن يفيد من تجربة الفنان غازي أنعيم.. ماذا تقول لهم؟
صحيح أن الواقع الحالي للوحة والفن بشكل عام لا يسر، وهذا الواقع عائد إلى الظروف الصعبة التي مرت بها سورية منذ عشر سنوات، وما زالت، ما أثر على الاقتصاد المرتبط بكل شيء، والأزمة المالية انعكست على سوق الفن التشكيلي في سورية، وما زاد الطين بلة ظهور جائحة كورونا التي انعكست على كافة نواحي الحياة وعلى جميع دول العالم.
ولكن، ومن خلال إقامتي في سورية ما يقارب 13 عاماً، ومتابعتي للشأن الثقافي والفني فيها، كنت ألمس أن الدولة السورية تؤمن بأن الفن والثقافة ضرورة حيوية للمواطن، وأن تنميته ثقافياً تواكب تنميته اقتصادياً واجتماعياً، فاحتضنت الفنان وعملت على مد الجسور بينه وبين الجمهور؛ وقد أثبتت الدولة تبنيها لمفهوم ضرورة الفن، فأنشأت العديد من المشروعات لخدمة الفنانين والجمهور على السواء، مثل مديرية الفنون الجميلة وكليات ومعاهد الفنون والمراسم والمقتنيات، وقاعات العرض، والمجلات المتخصصة مثل “الحياة التشكيلية”، والمعارض السنوية، والمشاركات الخارجية، كما عملت على نشر التذوق الفني من خلال الكتاب والبرامج الفنية التلفزيونية.
هذه الظروف – الحرب وجائحة كورونا – انعكست بشكل سلبي على الشباب الذين أصبحوا يصرخون في فضاء لا يجدون فيه من يسمعهم، لذلك كلي أمل أن تنتبه وزارة الثقافة إلى الفنانين الشباب وتعمل على رعايتهم وتشجيعهم ودعمهم من خلال المشاريع وإقامة المعارض واقتناء لوحاتهم والمشاركات المحلية والخارجية؛ ومن الطبيعي في هذه الأجواء والظروف الاقتصادية الصعبة أن تتضخم الذات الفردية وأن تنمو الشللية على حساب أشياء كثيرة لا تخدم الوطن ولا المسيرة التشكيلية، وهذا يوجب على أصحاب الضمائر الحية توحيد الطاقات لمحاربة الظواهر السلبية، وكذلك مواجهة الحصار المفروض على سورية بالعمل والوحدة، لتخرج أكثر منعة وقوة.
ونصيحتي للفنانين الشباب تتمثل بضرورة القراءة ومتابعة بحثهم الفني من أجل امتلاك رؤى فكرية ومضمونية تجاه واقعهم، والعمل على تعميق الأصالة والانتماء في الفن سعياً إلى بلورة شخصية متميزة من خلال استلهام البيئة والتاريخ، مع التأكيد على البحث، وتأصيل الخبرات التقنية بجدية الدراسة والابتكار وليس بالتقليد.