مجلة البعث الأسبوعية

الكيان الصهيوني نشأ في أوروبا وليس في فلسطين

البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان

يعدّ الدور الأوروبي في تأسيس الحركة الصهيونية، وإقامة الكيان الصهيوني في فلسطين العربية أكبر بكثير مما يظهر لنا عبر الكتابات الصهيونية بأنها حركة ذاتية واستمرارية لطبيعة المشاعر اليهودية عبر التاريخ، ذلك أن بني “إسرائيل” انقرضوا في القرن السادس قبل الميلاد، كما أن تاريخ تشتت اليهود على يد الرومان في القرن الأول الميلادي جعلهم خليطاً عرقياً متنافراً، بعد أن فقدوا وحدتهم العنصرية، فأخذوا يتكلمون لغات ولهجات مختلفة هي لغة ولهجة البلد الذي استوطنوه.

وهكذا فإن الأوروبيين هم الذين أوجدوا الفكرة الصهيونية، ثم تلقفتها الجماعات اليهودية الاستعمارية في أوروبا، فأسست جمعيات ومنظمات يهودية، أسهمت في تحويلها من حيز الفكر إلى برامج وخطط عمل شكّلت الحقل الذي اقتطعت منه المنظمة الصهيونية العالمية أخشابها، والتي شكلت بذور الحركة الصهيونية التي تفتحت براعمها في مؤتمرها التأسيسي الأول الذي انعقد في مدينة “بال” بسويسرا ما بين 21 – 31 آب عام (1897)، على يد – سيء الذكر – “تيودور هيرتزل” الذي عمل على توظيف آراء وأفكار مؤسسي هذه الجمعيات ونشاطاتهم في خدمة مخططه ومشروعه الصهيوني العالمي.

إن المهمة الملقاة على كاهل الصهاينة اليهود، تتركز حول خدمة المصالح الاستعمارية البريطانية. وقد أبدى قادة الحركة الصهيونية استعداداً كبيراً للقيام بهذه المهمة، كما يظهر جلياً في العديد من كتاباتهم، فقد أوضح “تيودور هيرتزل” هذه الفكرة، وشرح دور “إسرائيل” كحاجز في فلسطين يفصل بين السكان العرب في آسيا والعرب في شمالي أفريقيا، في إطار تجزئة الوطن العربي، والعمل المتواصل على ديمومة هذه التجزئة بهدف منع أي عمل من شأنه أن يضر بالمصالح الاستعمارية الإمبريالية.

وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن الصهيونية كانت حتى منتصف القرن التاسع عشر مقتصرة على غير اليهود، وكان هؤلاء الذين ناصروا اليهود إنما كان دافعهم إلى ذلك أطماعهم الاستعمارية دون أن يكون هنالك أي تعاون وتنسيق مع اليهود، فالصهيونية نشأت في أوروبا وليس في فلسطين، إذ أن الدور الأوروبي في تأسيس الحركة الصهيونية كان أكبر بكثير مما يظهر لنا عبر الكتابات الصهيونية بأنها حركة ذاتية واستمرارية لطبيعة المشاعر اليهودية عبر التاريخ، إن الأوروبيين هم الذين أوجدوا الحركة الصهيونية، لذا فإن أوروبا لم تكن مجرد المهد الذي ولدت فيه الصهيونية، وإنما كانت الرحم الذي لولاه لما كان للخرافة الصهيونية أن تولد.

فبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وصدور وعد بلفور عام 1917، وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين، التزمت بريطانيا بالعمل على تحقيق مشروع ما يسمى “الوطن القومي اليهودي”، داعمة النشاط الاستيطاني على نطاق واسع بعد أن أصبحت الوكالة اليهودية معترفاً بها من قبل سلطات الانتداب، فتوسعت عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وكان الاستيطان يسير خطوة خطوة بطريقة عملية منظمة ومبرمجة للسيطرة على فلسطين وإقامة الكيان الصهيوني. فحتى عام 1945، كانت منطقة النقب خالية من المستوطنات الصهيونية، ولكن عندما تأكد للصهاينة أن قضية فلسطين سوف تطرح على الأمم المتحدة، باشر هؤلاء على عجل بالتواطؤ مع سلطات الانتداب بإقامة بعض المستوطنات في المنطقة عام 1946، وخلال مدة قصيرة تمكنوا من إقامة إحدى عشرة مستوطنة، وتم إدخال مئة ألف مهاجر يهودي  صهيوني خلال العام نفسه مع تسهيل عملية انتقال الأملاك العربية لهؤلاء الصهاينة.

ومع رفض العرب لهذه الهجرة وللانتداب البريطاني معاً، واتخاذهم كل الوسائل الممكنة للدفاع عن كيان فلسطين الذي هو جزء لا يتجزأ من كيان البلاد العربية الأخرى، تيقن قادة الحركة الصهيونية وحلفاؤهم أن إقامة الوطن القومي المزعوم في فلسطين كلها هو أمر خطير، وربما عصي على التحقيق، ورأوا أن اقتطاع قسم من فلسطين مهما كانت مساحته هو الطريق الأفضل والأسلم لتحقيق الهدف، ولهذا أبلغ القادة الصهاينة الرئيس الأمريكي ترومان الذي كان متعاطفاً مع اليهود، أنهم على استعداد لقبول التقسيم، فاتخذت جميع الإجراءات التي تحقق مصالح اليهود الصهاينة وبريطانيا وأمريكا.

وبناءً على ذلك أحيلت مشكلة فلسطين على هيئة الأمم المتحدة، حيث اجتمعت الجمعية العامة في 28 نيسان عام 1947، لبحث الموضوع، وتقرر تأليف لجنة من مندوبي إحدى عشرة دولة من الدول الصغرى – وهي دول  محايدة- وقدمت اللجنة تقريرها مقترحة إنشاء دولتين مستقلتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، وهو ما عرف باسم “مشروع الأكثرية”، كما اقترحت مشروعاً آخر عرف باسم “مشروع الأقلية” الذي دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية تضم العرب واليهود معاً تنجز خلال ثلاث سنوات، أي قيام دولة ثنائية الجنسية.

وفي أثناء دراسة التقارير برز دور الولايات المتحدة الأمريكية كطرف رئيس عمل على دفع الأمور باتجاه تقسيم فلسطين، وعندما اجتمعت الجمعية العامة في 26 تشرين الثاني عام 1947 للنظر في مشروع التقسيم، بات من اللازم للحصول على مشروع الأغلبية – وهو مشروع يصب في مصلحة الصهاينة – أن تحصل على موافقة ثلثي أعضاء الجمعية آنذاك، وهكذا بادرت أمريكا ومعها حلفاؤها من دول أوروبا الغربية إلى تأجيل موعد التصويت لتتمكن من ممارسة الضغط على سائر أعضاء الجمعية لتمرير مشروع الأغلبية، وقد لاقت جهودها النجاح وحققت أهداف الصهاينة.

وكان أهم ما نص عليه قرار التقسيم الذي حمل رقم /181/ تاريخ 29/11/1947، وهو  تقسيم فلسطين بين العرب واليهود الصهاينة، وبينما أعطت  الجمعية /56 / بالمئة من مساحة فلسطين “للدولة اليهودية”، أعطت /45/ بالمئة للدولة الفلسطينية، وبقيت القدس وبيت لحم في منطقة خاصة تحت الوصاية الدولية بمساحة تمثل /5/ بالمئة من مساحة فلسطين، كما قررت الجمعية إقامة وحدة اقتصادية بين الدولتين، وقد أضيفت مناطق جديدة يملكها العرب ويقطنون بها في “الدولة اليهودية” المزعومة، مع إدخال منطقة النقب التي تمثل نحو نصف مساحة فلسطين إلى هذه الدولة أيضاً، ولم تكن سيطرة اليهود فيها تتجاوز نصف بالمئة.

ومنذ إقرار التقسيم اعتمدت سياسة القادة الصهاينة على التوسع، وقد ساعدتهم ظروف التجزئة التي كان يعيشها الوطن العربي، ولا سيما بعد إعلان قيام الكيان الصهيوني في 14 أيار عام 1948، حيث تمكنت العصابات الصهيونية المسلحة من توسيع الرقعة المخصصة لهم بالتقسيم، فاحتلوا مناطق خارجها وبعض المدن والقرى العربية، وحسنوا موقعهم، ووسعوا حدود منطقتهم حتى بلغت مساحة الأرض التي أقاموا عليها كيانهم نحو /75/ بالمئة من مساحة فلسطين، وذلك بعد عدوان 1956، وعدوان 1967.

إن قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن لمغايرته لإرادة الشعب الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه، ومناقضته للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق تقرير المصير، ولذلك فإن الوجود الاستعماري الصهيوني المستند إليه باطل أيضاً، وسينتهي مهما طال الزمن.