دراساتصحيفة البعث

ملفات ساخنة بانتظار الرئيس الجديد

ريا خوري

ما يحكم الولايات المتحدة الأمريكية هو النظام السياسي والدستور الأمريكي المعتمد منذ عشرات العقود، أي ما وضع في عام 1789، وما جرى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة شكّل حالة من اللااستقرار، واهتزازاً لفكرة المؤسسة الأمريكية، تحت وطأة الانقسامات المتتالية العميقة.

منذ الأيام الأولى للحملات الانتخابية، شاعت نظرية المؤامرة على نطاق واسع، وحتى أثناء فرز أوراق الاقتراع، ونسبت العديد من الأدوار الغامضة للدولة العميقة في إيصال من يريدون، سواء عن الحزب الديمقراطي أو الجمهوري. ومع اشتداد المنافسة، قال الرئيس السابق دونالد ترامب غير مرة: “نظامنا فاسد والانتخابات مزورة”، ما يعني بالتالي أن هذا النوع من التصريحات هو تشكيك في الانتخابات، ويعمق الانقسام السياسي والعرقي والطائفي في بنية المجتمع الأمريكي، ويثير المزيد من الشكوك غير المسبوقة في قدرة أكبر قوة عظمى في العالم على إدارة الانتخابات بنزاهة وصدقية.

إن مقدرات الولايات المتحدة لا يلخصها فائض جبروت قوتها العسكرية، ولا قدراتها الاقتصادية الفائقة بقدر صلابة نظامها السياسي الذي تم تأسيسه في عام 1789، وهو العام نفسه الذي انتخب فيه الرئيس الأول جورج واشنطن، لذلك لا يتحمّل الرئيس السابق ترامب مسؤولية الأجواء المسمومة في الانتخابات الرئاسية بالادعاء أنها سرقت، لأن التلاعب ليس في الانتخابات فقط، بل بمجمل النظام السياسي الأمريكي، هكذا تجلت فوضى ومشاغبات وصدامات شوارع الولايات المتحدة، حيث اتسعت في أماكن وضاقت في أخرى،  وبالتالي تنذر بشيء ما في مرحلة ما بعد الانتخابات.

اللافت في هذه الانتخابات أن حقائق التصويت فاقت كل استطلاعات الرأي العام على نحو دعا إلى الاستهزاء والسخرية منها بعدما فشلت بدورتين رئاسيتين متتاليتين عن توقع ما يحدث وما سيحدث، ففي الانتخابات الرئاسية عام 2016 رجحت كفة المرشّحة الرئاسية عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، وأكدت تلك الاستطلاعات أنها سوف تكتسح المرشّح الجمهوري دونالد ترامب، غير أنه فاز ووصل إلى البيت الأبيض، وفي المرة الثانية أكدت أن جو بايدن سوف يكتسح الانتخابات بقوة، وأن “موجة زرقاء” سوف تدفع الديمقراطيين إلى الهيمنة الكاملة على مقاعد مجلسي الكونغرس، وهو ما لم يحدث على الصورة التي توقعتها.

هذه القضية، أي قضية استطلاعات الرأي تعبّر بالفعل عن أزمة مجتمعية خانقة تستحق البحث والتقصي عن الأسباب الكامنة وراء فشل استطلاعات الرأي العام في التوقع بدقة النهاية، وعلى خلفية ما قالته استطلاعات الرأي المتواترة التي جزمت باكتساح بايدن، تبنى دونالد ترامب استراتيجية استباقية من أهم أهدافها التشكيك بالانتخابات قبل أن تبدأ، لقد صب جام غضبه واعتراضه على التصويت بالبريد الذي دعا الديمقراطيون أنصارهم إلى اتباعه للوقاية من الإصابة بعدوى فيروس كوفيد 19 (كورونا) في ظل الحشود الهائلة وزحام لجان الانتخابات، تلك الشكوك ليست مجانية على الإطلاق، فمنذ البداية استهدفت مصادر الاستطلاعات أية نتائج متوقّعة بالملاحقات القضائية حتى الوصول إلى المحكمة الدستورية العليا التي يهيمن عليها الجمهوريون.

بكل الأحوال، لا يمكن القياس على تجربة عام 2000 عندما حسمت المحكمة الدستورية العليا السباق الانتخابي بين المرشّحين الجمهوري جورج دبليو بوش، والمرشّح الديمقراطي آل غور لصالح جورج دبليو بوش بفارق عدة مئات من الأصوات في ولاية فلوريدا، لذلك في ضوء القانون، أي الدستور الأمريكي، يحق للرئيس جو بايدن إجبار دونالد ترامب على مغادرة البيت الأبيض إذا رفض تسليم السلطة، ووفق القانون والدستور الأمريكي إذا اعترف ترامب بهزيمته أم لا هذه ليست المشكلة، إلا أنها لو حدثت ستعبّر عن الشرخ الكبير في الشرعية، مع أن بايدن سيتسلم الرئاسة ضمن حفل التنصيب في العشرين من كانون الثاني 2021، فالرئيس الأمريكي المنتخب يستطيع بموجب صلاحياته الدستورية اتخاذ الإجراءات اللازمة لممارسة السلطة، المشكلة الحقيقية في هذا الأمر هي أنه إلى أي مدى يستطيع الرئيس الأمريكي الجديد أن يعيد شيئاً من الترابط والتماسك إلى المؤسسة الأمريكية والنظام السياسي الأمريكي، وشيئاً آخر من ترميم حالة الانقسامات الحادة السياسية والعرقية والطبقية في بنية المجتمع؟.

في آخر رئاستين شهدتهما الولايات المتحدة، وهما الرئيس الأسبق من الحزب الديمقراطي باراك أوباما، وترامب من الحزب الجمهوري، طرح سؤال المؤسسة نفسه على السجال الساخن العام بطريقتين مختلفتين، ففي حالة أوباما شاعت رهانات كثيرة على تغيير جوهري في السياسات الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط بمجرد صعوده إلى البيت الأبيض كأول رئيس للولايات المتحدة من أصول أفريقية، وفي حالة ترامب طرح السؤال نفسه ولكن بصيغة مختلفة وهي: إلى أي حد يمكن للمؤسسة الأمريكية أن تحتمل الخطاب الشعبوي للرئيس القادم الجديد الذي يخرج عن دبلوماسية البيت الأبيض وإدارته، وما هو معتاد في التعاطي مع القضايا الداخلية والخارجية؟!.

شغر الرئيس الجديد جو بايدن منصب نائب رئيس الولايات المتحدة في الفترة من عام 2009 حتى عام 2017 في أثناء حكم  أوباما، وهو عضو في الحزب الديمقراطي، ومثّل ولاية ديلاوير كسيناتور من عام 1973 حتى أصبح نائب الرئيس في عام 2009، كما كان عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي لعقود عدة، ورئيساً للجنة الشؤون الخارجية الأمريكية، ونائباً للرئيس لفترتين متتاليتين، أي أن الرجل يملك الخبرة الكافية في الشؤون السياسية بحكم صلاته الواسعة وعلاقاته العنكبوتية. ومن خلال أفكاره التي طرحها فإنه سيمد أواصر العلاقات والجسور مع الجمهوريين، وترميم ما يستطيع ترميمه، ليس هذا فحسب، بل سيجد نفسه أمام مجموعة كبيرة من التحديات الاستثنائية التي لم يسبق لأي رئيس للولايات المتحدة أن عرفها، منها: مواجهة جائحة كوفيد 19 (كورونا) ، إضافة لمواجهته نظاماً قضائياً غير عادل، ونظاماً ضريبياً غير مستقر، ومناخاً مهدداً بأخطار جسيمة، ومشهداً محتملاً بظاهرة الانقسام في المجتمع الأمريكي، وإعادة هيكلة خرائط ومخططات طرق التعامل مع ملفات الأزمات الدولية الخانقة، والعمل على إعادة ترميم العلاقات مع المكسيك وبرلين وباريس، وملف إيران النووي، والصراع في شرق المتوسط، وأزمة الخليج، وملفات: كوريا الديمقراطية، وأفغانستان، وحوض البلقان كوسوفو وصربيا، والحرب بين جورجيا وأرمينيا، وأوكرانيا، والسودان، وحرب اليمن الطاحنة، وليبيا الساخن، وغاز روسيا عبر البلطيق  لأوروبا ، وغاز البحر الأبيض المتوسط، واليونسكو، ومعاهدة المناخ العالمية، والتكنولوجيا والـG5، والدولار والذهب والسيليكون، والقارة الجنوبية الجار وخاصة فنزويلا وكوبا، إضافة إلى الصحة، والاقتصاد والتكنولوجيا، والإرهاب وووو إلخ، قهل سيتمكن جو بايدن خلال رئاسته من حل تلك القضايا أم لا؟.