محمد شكري.. من اندماج الجمال والقبح يستمد الإنسان جزءاً من خلوده!
“البعث الأسبوعية” ــ المحررة الثقافية
يؤلف الكاتب محمد شكري ظاهرة أدبية ملفتة للنظر في عالم الكتابة العربية، فهو قصاص وروائي، لكن أكثر قصصه ورواياته كانت ممنوعة من التداول، سواء في بلده أم في بلدان عربية أخرى، لذلك يسمع الناس عن أعماله أكثر مما يقرؤونها، وكان يطبعها سراً، وعلى نفقته الخاصة، كما يبيعها بنفسه..
جاء محمد شكري متأخراً نوعاً ما إلى عالم الكتابة، فحتى الواحدة والعشرين من عمره لم يكن يعرف القراءة والكتابة، ولم يكن يعرف في هذا العالم إلا عالم الليل في طنجة، بكل ما يضج به من غرائب ومفارقات؛ ولكنه ما إن عرف كيف يفك الحرف حتى أقبل على القراءة بنهم، فقرأ بالعربية، كما قرأ بالفرنسية حتى أصبح، بعد ذلك بسنوات، كاتباً طليعياً مرموقاً اخترق طبقة المثقفين المتعلمين خريجي المدارس والجامعات التي لم تطأها قدماه يوماً، ومتفوقاً عليهم بذلك المخزون الشعبي الذي حصلّه من خلال معاشرته لعالم المهمشين والمسحوقين في طنجة التي تجد في الليل وطنها الحقيقي.
محمد شكري – هذه الشخصية القلقة – مقلق إلى أبعد الحدود، فهو يستمد أعماله من الواقع، ومن حياة الناس الفقراء والبؤساء، ولا عجب إذن أن تتضمن تحريضاً، أو ما يشبه التحريض، بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ ولأن أكثر أبطالها من أبناء الليل وبناته، فهي تتضمن أيضاً جنساً، والبعض يتهمه بالتركيز على الجنس وتعمد الإثارة؛ لكن شكري ينفي ذلك، ويقول إن الجنس في أعماله ليس مثيراً أو مقصوداً لذاته، بل هو “جنس آخر بائس وشقي”، فالجنس والبؤس والغضب والطفولة محاور تربى في كنفها، حيث يقول: “إنني وليد هذه المحاور الأربعة، ولكن في صورة بائسة! ويبدو لي أن علاقة الرجل بالمرأة قائمة على سوء تفاهم، ونحن في حاجة إلى إعادة تأسيس هذه العلاقة اجتماعياً وحضارياً.. إن طفولتي ليست سوية بالمفهوم التربوي، لقد مررت بها، لكنني لم أعشها فقد سُرقت مني.. أبطال قصصي يعنفون لأنهم غير راضين عن العلاقات الإنسانية المفككة القائمة على أسس غير عادلة! إنني لا أتعامل مع الحدث في كتاباتي وحياتي المعاشة، إنما أتعامل مع جوهر الفعل الإنساني الإيجابي، وكل كتابة جيدة لا يمكن لها أن تكون إلا قصدية، ومن خلال هذه القصدية الإبداعية، المتغيرة في آن، يتم لنا تجميل ما هو قبيح وتجميع وتكثيف ما هو مشتت وسائب”.
في حوار لإدوارد خراط معه، يسأله فيما إذا كانت (الخبز الحافي) محاكمةً، أم بوحاً واعترافاً؟ أم كلاهما؟ وأي الجانبين له الوزن الأكبر برأيه؟ يجيب: “في سيرتي الذاتية، مزجت المحاكمة والبوح معاً – كما تقول، لكن – في رأيي – كان الجانب الاجتماعي يطغى عليها، وهو أقل جمالية وفنية من الجانب الاعترافي.. إن المحاكمات تفسد جمالية الأدب، لأنها تحاول أن تبرهن على الأشياء بالمنطق، بينما الجانب البوحي يلتمس الوجدان الذي يلطف ما هو خشن في الحياة”.
ذكرياته مع جينيه
وجد شكري في جان جينيه أباً روحياً أنقذه من يتمه ومنحه الكثير من الاطمئنان الذي افتقده طويلاً، وأعرب شكري في مذكراته عن فرحته الكبيرة – حين رافق جينيه – أن يكون أباً روحياً له بعد أن أخبره عن طفولته التي لا تختلف عن طفولته هو، في “يتمها وبؤسها وشقائها”.. آنذاك، راح شكري يتماهى مع صورة أبيه الجديد، ولم يكن قد بدأ حينها تجربة الكتابة الحقيقية، وكانت علاقته بصديقه وأبيه الثاني حافزاً له للخروج من ماضيه البائس إلى زمن آخر، هو زمن الكتابة، وكم سيبدو أثر جينيه واضحاً عليه حين يمعن لاحقاً في كتابة سيرته التي حملت عنوان (لخبز الحافي).
لكن أكثر ما يجمع بين جينيه وشكري هو الحياة.. الحياة الناقصة المهترئة الخالية من الحلم، المجردة من غاياتها. كلاهما جاء إلى الأدب من إثم الحياة، ومن وعورة الماضي وخيباته.. جاءا إلى الأدب من وجهة أخرى لم يكن الأدب ليحفل بها سابقاً، عاشا التجربة وخبراها عن كثب، ولم تكن الكتابة لهما إلا خاتمة الحياة الأولى التي لا تشبه الحياة بقدر ما تشبه الموت.. طفولتهما متشابهة، وكذلك فترة مراهقتهما، وإذ عرف شكري أباه الشرعي بقساوته فهو لم يبرح أن قتله “مجازياً”، هاجراً عائلته البائسة، تائهاً في عالم قاس، وموحش، يشبه تماماً عالم جينيه الواقعي والمتخيل على السواء؛ وإذا لم يعرف جينيه أباه يوماً، ولم يتسن له أن يحيا مع أمه التي هجرته باكراً، فإن شكري أمضى جزءاً من طفولته دون هوية، ومن دون أوراق شخصية.
محاصرة أعماله
بسبب الحصار الذي كان مفروضاً على كتاباته، أصيب شكري بالإحباط حتى أنه بقي لسنوات طويلة دون أن ينجز شيئاً يضاف إلى منجزه الأدبي. كانت كتاباته تلك عبارة عن بدايات لأعمال قصصية أو روائية لم تكتمل، وكان كثيراً ما يردد: “لا أدري هل الحياة هربت مني، أم أنا هربت من الكتابة. أعتقد أن المسؤولية تقع على الحصار الذي أُعلن على أعمالي طوال سنوات وسنوات، لأنني كنت أكتب أشياء، وأبعثها إلى دور النشر، أو إلى مجلات وجرائد وملاحق أدبية، ثم ترفض بدعوى أنها أعمال أخلاقية – ولا أقول لا أخلاقية.. أخلاقية، أي أنها تعالج مشكلة الأخلاق.. لقد سبب لي هذا الحصار نوعاً من الإحباط، وبدأت أراقب، أكتب، حتى جاء وقت شعرت فيه بأن أمري مع الكتابة قد انتهى”!!
لم يكن شكري يعيش من الكتابة، لأنه كان يرى أن حياته اليومية أجمل من كتاباته، رغم أنه يستمد كتاباته من يومياته، وكان مقتنعاً أن هناك انتقائيات هي ما ينبغي أن يبدع؛ ومن أجل هذا، لا بد من تراكم التجارب، ومن خلال هذا التراكم كان يبدع ما يكتب.
كان يقول أن لكل فترة – من الفترات التي يعيشها كل إنسان – جمالاً وقبحاً، ومن هذا المندمج الجمالي والقبحي يستمد الإنسان جزءاً من خلوده: “مثلاً، هناك أناس يخافون من الشيخوخة، وفي شبابي كنت أحن إلى هذه الشيخوخة التي يخاف منها الآخرون، لكن ينبغي أن يعرف الإنسان كيف يحبها، وإلا صارت رعباً، فما أجمل التجاعيد والأسارير التي توحي بتجارب عشتها، فالشيخوخة المجربة لا تخيفني”!!